يستند المؤرخ في تدوين الوقائع وتحليلها والتثبت منها على مشاهداته أو مسموعاته الموثقة أو الحفريات والمدونات الآثارية والتاريخية، بل يتسامح بعض مدارس التاريخ على الانتقاء من الأساطير والمثيولوجيا. وفي الوقت نفسه؛ تستبعد غالبية المدارس الأكاديمية النص الديني كمصدر تاريخي، وتذهب إلى أن النص التوراتي والإنجيلي والقرآني وغيرها، لا تنطبق عليه معايير المصدرية المادية. والحال؛ أن هناك وقائع تاريخية كثيرة مدونة في الكتب السماوية أو المنسوبة الى السماء، تتعلق بسير الأنبياء والصالحين والملوك والطغاة وماضي الأمم ومسارات كثير من الأحداث، لكن المؤرخين لا يستندون إليها بوصفها مصادر مادية، ويسوغون ذلك بأن النصوص الدينية هي نصوص هداية وليست تاريخ، وأنها ناظرةٌ إلى العِبر والتذكير والتوعية والتعبئة والوعيد في هذه النصوص، وليس من الضروري أن يكون المراد منها توثيق الوقائع التاريخية، ولذلك؛ لا يمكن اعتمادها.

   وظهر بعض الباحثين التاريخيين العرب والمسلمين خلال العقود الأخيرة، الذين يشككون حيناً ويجزمون حيناً آخر، بأن وجود كثير من الأمم والأقوام والجماعات والأنبياء والصالحين والطغاة الذين وردت أسماؤهم في الكتب الدينية السماوية، ليس ثابتاً من الناحية التاريخية، بمن فيهم إبراهيم وموسى وأهل الكهف ــ مثالاً ــ؛ بسبب عدم وجود أي أثر تاريخي يدل على وجودهم وأدوارهم في المدونات والحفريات والآثار، وخاصة الهيروغليفية (المصرية) والمسمارية (العراقية) واليونانية، وأنهم ذُكروا فقط في النص التوراتي الديني فقط، ثم أكّد القرآن وجودهم.

   ونرى بعض المؤرخين والأركولوجيين يؤكدون وجود رمسيس الثاني ــ مثلاً ــ، وهو الفرعون المعاصر للنبي موسى كما يرى بعض المؤرخين، لأنه مذكور في النص الهيروغليفي الفرعوني، لكنه يرى أن موسى ربما يكون شخصية أُسطورية، لأن النصوص الهيروغليفية الفرعونية لم تذكره ولم تؤرخ لوجوده، بل لم تؤرخ لوجود دور لهكذا شخصية في حياة الدولة الفرعية في عهد رمسيس الثاني وولده. ويقول هؤلاء المؤرخين والآثاريين بأن موسى ورد ذكره في التوراة فقط، وأيده القرآن، وهما نصان دينيان لا يمكن اعتمادهما مصدراً تأريخياً دالاً دلالة مادية على وجود الشخص ووقوع الحدث، بل يذهبون إلى أنّ النصوص التوراتية أخذت موضوعاتها التاريخية وسير الأنبياء والملوك، بما في ذلك الخلق والتكوين، من الأساطير السومرية والفرعونية، متجاهلين أن هذه الموضوعات والأسماء والوقائع ورد ذكرها في القرآن أيضاً، رغم أن أغلب أصحاب هذه الآراء هم من المسلمين.

   وهذه الآراء تستند إلى معايير متهافتة، حتى في الجانب المادي؛ لأن الكتابات الفرعونية ــ مثالاً ــ من الطبيعي أن تمجد الحاكم وتدون سيرته وتبالغ في إنجازاته، وتنكّل بأعدائه وتمحو أثرهم، ومن الطبيعي ألّا تذكر موسى. وبالتالي؛ ينبغي مراجعة مصدر آخر، وإن كان دينياً. فمالفرق؟؛ فإذا كان النص الديني التاريخي منحازاً لمصلحة النبي والمصلِح والجماعة الدينية والأهداف الإيمانية، على حساب الحقائق التاريخية؛ فإن هذا الإشكال ينطبق أيضاً على النصوص الآثارية المسمارية أو التصويرية أو الحرفية، لأنها هي الأخرى منحازة إلى ولي نعمة الكاتب، وهو الحاكم وإنجازاته وانتصاراته. وبالتالي؛ إما أن يتم الاستناد إلى النصوص التاريخية الأرضية والنصوص التاريخية الدينية معاً، أو عدم اعتمادهما معاً، لأنهما يخضعان للمعايير نفسها، في حال كان المؤرخ يعتقد بأن النص الديني هو نص بشري أو نص للهداية وليس للأرخنة.

   وهنا تظهر جملة مفارقات بشأن هذه المسوغات؛ فالنص الديني، سواء كان افستائياً أو توراتياً أو إنجيلياً أو قرآنياً، هو ـ بكل الأحوال ـ نص ديني قديم بقدم وجود النبي المنسوب إليه النص، أي أنّ هناك من دوّنه ورواه منذ مئات أو آلاف السنين؛ فإذا كنّا نعتقد أن هذه الكتب أو بعضها، منزّل من الله وأنها نصوص مقدسة؛ فمن المستحيل أن يذكر الله أحداثاً وهمية وأشخاصاً وهميين أو سيرة مختلَقة لغرض الهداية. وحينها يكون من المؤكد أن كل ما ذكره النص الديني من أحداث وشخصيات ومسارات تاريخية، هي صحيحة، وقد وقعت بالفعل، ولم يذكرها الله كرموز للتسلية الهادفة والحكايا والقصص الهادية؛ لأن ذلك يتناقض كلياً مع غاية نزول النص وعصمته وقدسيته وفلسفة حضوره في حياة الإنسان، ولا يمكن أن تبرر غاية الهداية وسيلة الكذب عند الله. 

   وبالتالي؛ لا مجال من عدم اعتماد النص الديني كمصدر تاريخي مادي محايد. هذا بالنسبة للمؤمن بإلهية بعض النصوص الدينية، أي الذي يؤمن بإلهية النص الديني؛ فيكون حجة عليه في القبول بمصدريتها التاريخية. أما إذا لم يكن المؤرخ مؤمناً بإلهية النص الديني وقدسيته؛ فلا يختلف الأمر كثيراً، وسيكون الاختلاف فقط في تمحيص النص الديني الخاص بالتاريخ والوقائع والسير، وتدقيقه ودراسته، حاله حال أي نص بشري؛ فهذا النص بالتالي كتبه شخص أو أشخاص قبل مئات وآلاف السنين، ودوَّنوا ما شهدوه أو سمعوا به أو تناقلوه من أجيال سابقة، وهذه الشهادات والمدونات والروايات ربما تكون صادقة أو تكون موضوعة ومختلَقة أو مُبالغ بها، وهي بذلك؛ لا تختلف عن أي نص تاريخي آثاري؛ فالألواح والكتابات الآثارية التاريخية، كتبها بشرٌ أيضاً، ولا سيما المقرّبون من الحكام، وبالتالي؛ ربما تكون الوقائع والسير الموجودة فيها كاذبة وربما تكون صادقة أو مبالغ بها، ولا يمكن اعتماداً مصدراً لأحداث وقعت بالفعل، وهو ما تدل عليه الأساطير والتخريفات المليئة بالمدونات والآثار القديمة. 

   وعليه؛ لا يوجد ما يمنع منهجياً من إخضاع النص الديني والمثيولوجيا الدينية الى معايير محاكمة الأثر التاريخي المدون نفسها، سواء كانت نصوصاً إلهية أو منسوبة للإله؛ لأن كلا النص الديني والأرضي، هما ــ كحد أدنى بالنسبة لغير المؤمن بإلهية النص الديني ــ صادران عن بشر يصيبون ويخطئون أو هم أصحاب أهداف خاصة، ويصبح لزاماً اعتماد النص الديني مصدراً للتأريخ، سواء كان المؤرخ مؤمناً بإلهية النص أو غير مؤمن.