في واحد من الأحاديث النبوية المثيرة التي اختلف المفسرون في معانيها رغم وضوح كلماتها، شبه النبي محمد (ص) الشعوب بحاكميها حينما قال ( كيفما تكونوا يولى عليكم )، وبصرف النظر عن تصنيفات علماء الأحاديث في ضعف أو قوة الحديث المنسوب للنبي، إلا انه جاء معبرا بدقة عن حال الشعوب والحكومات أو الزعماء في منطقتنا عموما، ومطابقا لما شهدته هذه البلدان والشعوب في انعكاس خلاصة ما يختزنه الشعب من ثقافة وسلوك في تصرفات حكوماته أو زعمائه ملوكا كانوا أم رؤساء، ومعنى الحديث كما هو واضح أن الوالي والأمير يكون من جنس المولى عليهم ( الرعية ) فإن كانوا صالحين كان مثلهم، وإن كانوا فاسدين كان مثلهم، والحالة التي يكونون عليها يكون عليها ولي أمرهم.

 

     ولعله من المفيد أن نذكر أيضا الدارج العراقي الشهير ( عاب شي لا يشبه أهله ) الذي عبر عن ذات المعنى في توصيف دقيق لما شهده العراق من سلوكيات المرؤوسين قبل الرؤساء، وما فعلته الآلاف المؤلفة بل الملايين من تصنيع دكتاتوريين بمختلف الموديلات والأنواع، ابتداءً من شيخ القبيلة وصعودا إلى الملك المفدى أو الزعيم الأوحد أو الرئيس الضرورة، حتى ظن البعض منا أنه مرض عضال وميؤوس من شفائه، خاصة وأن فرصة إسقاط ذلك النظام على أيدي الأجانب، منحنا فرصة إعادة بناء الدولة بمعايير جديدة، في مقدمتها البدء من أول درجات السلم وهي المدرسة، لكننا فوجئنا بتراكم هائل من ثقافة متكلسة لدى كل الأدوات التي تم استخدامها، وهي موروثات عبر مئات السنين وربما تحتاج إلى مئات أخرى لتغييرها جذريا!

 

     إذن ونحن نجلد أنظمتنا السياسية دوما بمختلف أشكالها، لا ننسى أننا  نادرا ما نجلد أولئك الذين صنعوا تلك الأنظمة، وبالتأكيد أولئك ليسوا بالعشرات أو المئات بل بالملايين الذين شهدوا عبر التاريخ، قراءة أو معاصرة، وهم بالتالي يمثلون منظومة الثقافة والأخلاق والعادات والسلوك الاجتماعي الجمعي لكل هذه الشّعوب التي أذابتها في بوتقة قوانين الخيمة والإبل ، غزوات البدو مستخدمة الدين وسيلة وحصان طروادة للهيمنة وفق سياقات الغرائز بعيدا عن أي مفهوم حضاري نوعي باستثناء مظاهر لا تمت لبواطن السلوك بأي صلة، ولقد شهدنا جميعا في مجتمعاتنا الشرقية عموما والعربية والشرق أوسطية بشكل خاص، التأثر حد البلاهة بالمظاهر الأوروبية دونما الولوج إلى أعماق حضاراتهم، أو على الأقل إلى بدايات إنتاج تلك المظاهر.

 

     وفي معظم التجارب الديمقراطية في منطقتنا وبالذات التجارب الثلاث الأقدم؛ التركية والمصرية والإيرانية، والى حد ما اللبنانية والعراقية الْمَوؤدَة في تموز 1958م، لم تنجح في إقامة دولة المواطنة بين سكانها المختلفين عرقيا ودينيا ومذهبيا، وبقيت الصراعات محتدمة رغم الإكسسوارات التي استخدمت في كل هذه البلدان، خاصة بين المذهبين الشيعي والسني والأديان ( المسلمين وبقية الأديان الأخرى ) والأعراق وما يحصل منذ قرن من الزمان من عمليات إبادة جماعية عضوية أو ثقافية للأعراق المختلفة عن العرق السائد ( الكورد والامازيغ والعرب والتركمان وبقية الأعراق الأخرى ).

 

     وبنظرة متفحصة لسلوك أي أسرة وأفرادها من عموم الأهالي في أي مدينة أو قرية،  تظهر بشكل جلي أنماط التربية والسلوك التي أنتج نظامها السياسي ومواصفاته  عبادة الفرد وعدم قبول الرأي الآخر، بدءا من الطاعة العمياء للأب والأم والمعلم وشيخ القبيلة وعالم الدين أو إمام الجامع صعودا إلى مستويات الإدارة بمختلف أشكالها، دون وجود أي أثر لثقافة نقدية تناقش وترفض أو تقبل أي فكرة أو رأي، تحت مختلف التبريرات الدينية التي تصل حد التكفير والاتهام بالإلحاد وإقامة حد القتل، أو الاتهام لمجرد مناقشة الأب أو الولي بالخروج عن القيم الأخلاقية مما يسقط الفرد اجتماعيا أو تربويا، وبذلك ودون أن نشعر، سادت شمولية اجتماعية ودكتاتورية باتت مقبولة عرفيا واجتماعيا ودينيا وتربويا، تواقة لصناعة أي دكتاتور لمجرد سيطرته على مكامن  القوة، مما أنتج في آخر عمليات التكاثر الأميبي لهذا السلوك مجموعة الأنظمة التي صدق من وصفها (كيفما تكونوا يولى عليكم ).

     وحتى تحقيق ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ستبقى عجلة الدكتاتورية الاجتماعية والدينية والقبلية قبل السياسية تسحق آمالنا وتطلعاتنا نحو مستقبل محترم!