أمننة موضوع معين لا يعني بالضرورة أنَّه يهدد جوهر بقاء الدولة المعنية ولكن يعني أن شخصاً ما قد نجح في جعل موضوع ما مشكلة وجودية؛ مثال على عناصر عملية الأمننة: بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 علت أصوات منادية بدحض الإرهاب خاصة من داخل الولايات المتحدة، فكان الفاعل المؤمنن هم صانعي السياسة في الولايات المتحدة، التهديد الوجودي هو الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل (في العراق مثلا)، أما الموضوع المرجع فهو أمن أمريكا القومي، الجمهور: الشعب الأمريكي والمجتمع الدولي. وقد إتخذت أمريكا ذلك ذريعة لإجتياح العراق.
وبحكم المتابعة المستمرة في المجال الأمني و التجربة لسنين طويلة والحياة في منطقة كانت دائماً عرضة للتهديد ومحاولات زعزعة أمنها واستقرارها من قبل ناس غلبت عليهم العنصرية والنزعة الطائفية والدينية وكرههم للإنسانية وحقدهم الدفين لإقليم كوردستان حكومةً وشعباً، فقد تراكمت لدينا الكثير من الملاحظات والرؤى والأفكار ونرى من حقنا ابداء رأينا في مثل هذه المواضيع ونقول بان نظرية الأمننة تحتاج الى تعديل وتصحيح لانها كانت ذات أهمية كبيرة في وقتها وكانت تمثل ابداعاً وإنجازاً ولكنها لم تعد كما كانت للأسباب التالية:-
إن هذه النظرية قد وضعت في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وبالتحديد بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي السابق وانتهاء الحرب الباردة ودخول العلاقات الدولية في مرحلة أحادية القطب وظهور مفاهيم أمنية جديدة منها عولمة الامن ومبدأ التدخل الإنساني ومر على تأسيسها اكثر من ثلاثين سنة وشهد العالم احداثاً كثيرة غيَرت مجرى العلاقات الدولية بين الدول، منها الغزو العراقي لدولة الكويت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 و ظهور الجماعات الإرهابية والجرائم العابرة للحدود وظهور فواعل جديدة وعديدة مؤثرة على الامن العالمي وسلمه من غير الدول، منها المنظمات الدولية والاعلام و الجماعات المسلحة وتأسيس دول عديدة وتغيير في أنظمة الحكم في عدد منها وبروز دول أخرى كقوى اقتصادية فاعلة ومؤثرة على الساحة الدولية، وباختصار لم يعد أمن الفرد مسؤوليته الشخصية او مسؤولية دولته، بل أن الأمن مسؤولية الجميع وبات عملاً مشتركاً ومسؤولية تضامنية لا يمكن إبعاد أي طرف منها او التقليل من دوره.
هذه النظرية، كالنظريات السابقة تعرضت الى النقد ولم تسلم منها من قبل أصحاب الاختصاص، ولإنه في الأصل نابع من الفكر الإنساني، مثلما اشرنا اليه في البداية ويحمل كل فكر جانباً من الصواب و آخر يحتوى على الخطأ، و ان وجود النقد الموجه الى النظرية لا تعني عدم نجاحها، بل دليل على تأثيرها وقوتها وفاعليتها ومن الممكن ان يستفاد أصحاب النظريات وخاصة في الجانب الأمني من السهام الموجهة اليهم خاصة اذا ما كان نقداَ بناءاً والقصد منها إصلاح الحال بالأستمرار والإدامة، و من حق كل إنسان أن يبدى رأيه ويدلو بدلوه دون تجريح او تشهير لأحد.
إحدى العناصر الأساسية التي اعتمدت عليه هذه النظرية وتوقف عليه نجاحها هو مدى تقبل الجمهور لقرار الأمننة واصل النظرية تؤكد على مدى قابلية الفاعل المؤمنن على التأثير في الجمهور وإقناعهم بأهمية موضوع بحث الأمننة وعبر عنه بارى بوزان (بخطاب الامن) وإن استطاع التأثير فيهم وبناء تصور لهم بان هذا الموضوع مهم ويحتاج الى تحويله الى قضية أمنية وجر بأفكارهم الى الاتجاه الذي يراه مناسباً، فحينها كان يكتب لهذا الموضوع نجاحه في امننتها وبعدها يستطيع الفاعل اصدار قرارات جديدة واتخاذ إجراءات استثنائية صارمة لم يكن يستطيع أتخاذه في الظروف الاعتيادية. وإذا لم يستطيع فاعل الامننة إقناع الجمهور فإن جهوده بأمننته للقضية لا تأتي بثمارها بل تصطدم برد فعل وسط الأستنكار والرفض ويكون مردودها سلبياً عليهم في أكثر الأحيان.
بأختصار ان سر نجاح هذه النظرية تكمن في مدى قبول الجمهور لقرار الامننة وإيمانهم بضرورة القضية المؤمننة من عدمه وعليه فإن الجمهور (الشعوب) في السنوات السابقة (من بداية ظهور النظرية) كان ذات تفكير ليس بتفكير اليوم وكان شبه منعزلاً عن العالم الخارجي وخاصة شعوب منطقة الشرق الأوسط لوجود أنظمة حكم لا تسمح إلا بسماع ايدولوجياتها وعقائدها عبر وسائل اعلام محلية كان الشعب اسيراً لها حيث لم تكن الاعلام بهذا المستوى والتأثير ولكن بعد ان اصبح العالم قرية بل غرفة صغيرة وفي متناول الجميع بفعل العلم والتكنولوجيا وكثرة أجهزة الاعلام وتنوعها وشبكات التواصل الاجتماعي تحت مسميات عديدة وتغيير أنظمة حكم كثيرة باخرى اكثر انفتاحاً وقبولاً للأراء المختلفة أدى الى تغيير في نمط تفكير الانسان و وسعت أفقه و رؤيته الى القضايا، فلم يعد اسيراً لوسائل اعلام محلية وخاضعاً لها في تكوين رأيه و تصويره لما يدور من حوله من قضايا بل بات هو المتابع والمستلم للمعلومات والاخبار مباشرة من مصادرها دون الحاجة الى وسيط، مما أدرى الى بناء ثقافة عامة خاصة المهتمين منهم وبات العالم أجمع بين يديه بمجرد ضربة (كليك) مما أثر على فهمه وتناوله للأمور ولم يعد بذات السهولة السابقة للاقناع وأن يقع تحت تأثير خطاب الفاعل المؤمنن وان يدعه ان يكوَن رأيه بحسب توجهات الفاعل وقناعاته بل سار الأمور بعكس ذلك، حيث اصبح الجمهور هو الفاعل والمعبر عن رأيه عن طريق التظاهر والتجمعات ومنصات التواصل يؤثر على القرارات صناع القرار وتوجهاتهم.
وفي الجانب الآخر فإن أنظمة الحكم ما بعد الأنظمة الشمولية وأحزابها السياسية المتعددة بتوجهاتها الدينية والقومية والأممية بمختلف تسمياتها ونتيجة لقراءتها الجيدة والعميقة للعقول وكيفية تكوين الرأي العام، فإنها بدأت بتأسيس ماكنات إعلامية(مرئية ومسموعة ومكتوبة) عملاقة خاصة بها وتقوم بنشر أفكارها ومواقفها تجاه القضايا المختلفة المحلية والإقليمية وحتى الدولية، غالبا ما تلعب هذه الأجهزة على عواطف الإنسان ومشاعره وإثارة النعرات الطائفية والدينية والقومية وتحاول تأجيجها لغرض تكوين رأي هذا المواطن والتأثير عليه وتوجيهه الوجهة التي يريدها ويدفع به الى تحقيق ما تريده، ناهيك عن الجزء الأكبر من الشعب يرتبط بهذا الحزب او الكتلة لتحقيق مصالح معينة وتأمين لقمة العيش لأهله فهو في الأصل أسير لما يبثه حزبه أو كتلته رافعا راية المدافع الأعمى عنما يتوجه اليه وهذا النوع هو مأمن الرأي يتغير بتغير ما يوجه اليه ويرى الابيض اسودا اذا ما اتته التوجيه وهذا يعني أن رأيه سبق وان تم تكوينه وهم الجزء السهل عندما تريد جهة أرتباطه أمننة قضية أو موضوع ما لأنه مقبول ويمضي بجميع أصابعه ويدافع عنه دون كلل أو ملل بل يراه إخلاصا ونضالاَ.
مع الملاحظة ان ما تطرقنا اليه لا ينطبق على جميع الحالات والقضايا بل على غالبيتها، لانه لم تعد قضية او موضوع مهما كان مهماً او تافهاً أن يجتمع عليه جميع الآراء بالاتفاق او الرفض، بل تلعب النسبية دوراً مهماً ورئيسياً في توجهات الجمهور وصناع القرار.
لهذه الأسباب وغيرها العديد لم تعد هذه النظرية صالحة لهذه المرحلة المتشابكة والمتداخلة في الأمور والقضايا، لذا ندعو أصحاب الاختصاص والباحثين في المجال الأمني بذل قصارى جهودهم لوضع نظريات أخرى أكثر ملاءمة وانسجاماً مع متطلبات العصر الحالي والمستقبل القريب وان يتظافر ويتعاون فيما بينهم للخروج بأحسن النظريات وأنسبها و اكثرها خدمة وحماية للامن والسلم العالميين.
تابعونا في الحلقة الثالثة(نماذج من المواضيع المؤمننة في العراق)