إيقاف خطاب الكراهية الذي يبثه التلفزيون السوري الناطق باسم حكومة الإنقاذ خلال اليومين الماضيين أصبح ضرورة مُلحة لضمان مستقبل مستقر لسوريا. هذا الخطاب، سواء صدر بشكل مباشر من المذيعين أو عبر محللين يتم استضافتهم، يعكس تحول هذا المنبر الإعلامي من كونه لسان حال النظام الأسدي المجرم، الغارق آنذاك في الكراهية والتحريض، إلى منصة تتبنى خطابًا عنصريا يستتر تحت شعارات الشعب والوطن.
ما يزيد الأمر خطورة هو أن هذا التحول المزعوم في الهوية الإعلامية لا يعبر عن تغيير حقيقي في النهج أو الأهداف، بل هو محاولة لتجميل خطاب يستمر في زرع الانقسامات وتأجيج الكراهية بين مكونات الشعب السوري.
تصاعد هذا الخطاب ضد الشعب الكوردي بشكل خاص من خلال مهاجمة الكورد ومطالبهم من سوريا القادمة كوطن للجميع، تحت حجة مواجهة مخططات الإدارة الذاتية وقوات قسد، الخطاب المستند إلى منهجية مشابهة للدعاية التركية العدائية تجاه الكورد، لا يهدد فقط العلاقات بين المكونات السورية المتنوعة، بل يفتح الباب أمام صراعات داخلية أعمق داخل الفصائل الإسلامية المعارضة ذاتها، ويغلق الأبواب أمام حوارات وطنية قد تبنى عليها مستقبل المجتمع السوري.
هذا الخطاب، الذي يستخدم الدين كأداة لإثارة الانقسامات، لا يقتصر أثره على تقويض الهوية الكوردية أو إضعاف مشروع الإدارة الذاتية، وبشكل غير مباشر إبعاد المجلس الوطني الكوردي، أحد مكونات الائتلاف الوطني السوري، من الساحة السياسية الوطنية، بل يزرع بذور تدمير أوسع داخل المشهد السوري. الفصائل السورية المعارضة، التي نشأت على خلفية الثورة ضد النظام، باتت اليوم ميدانًا لتناقضات أيديولوجية عميقة. خطاب الكراهية ضد الكورد، تحت أية ذريعة أو حجة، يهدد بتحويل الصراع مع مخلفات النظام الإجرامي المهزوم وفلول البعث، والنهوض بالوطن المدمر والممزق والإيمان ببنائه بشكل ديمقراطي، بل وربما إلى اقتتال داخلي بين الفصائل الإسلامية المعارضة نفسها، حيث يُضاف إلى الاختلافات الفكرية صراعات إثنية ودينية قد تكون أكثر تدميرًا.
تركيا، التي تتبنى هذا الخطاب ضمنيًا، تهدف إلى تعزيز الانقسامات داخل المكونات السورية لتحقيق أهدافها التوسعية. المنهجية التركية تعتمد على تصوير الكورد كعدو مشترك للفصائل المعارضة، مما يمنحها السيطرة على هذه الفصائل ويوجهها بما يخدم مصالحها الإقليمية. مع ذلك، فإن استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث قد تتفاقم الخلافات بين التيارات الإسلامية المختلفة، مما يُضعف قدرتها على التنسيق أو التحرك كجبهة موحدة.
إذا استمر هذا الخطاب العدائي، فإن سوريا لن تواجه صراعًا بين الكورد والعرب فقط، بل ستكون أمام صدام داخلي بين التيارات الإسلامية ذاتها. الفصائل، التي تجمعها أهداف سياسية متباينة، قد تجد نفسها في صراع مفتوح، حيث تتحول الخلافات الفكرية إلى مواجهات فعلية، مما يُضعف موقفها ويجعلها عرضة للاستغلال من قبل قوى إقليمية ودولية.
الحل الذي يضمن استقرار سوريا واستعادة اللحمة الوطنية يكمن في تبني نظام لا مركزي فيدرالي، حيث يصبح هذا النموذج أكثر من مجرد آلية لتوزيع السلطة، بل فلسفة تعيد تعريف طبيعة العلاقة بين المركز والأطراف، والأطراف منها إثنية ومنها مذهبية. الفيدرالية ليست حلاً إداريًا فحسب؛ إنها رؤية تؤمن بأن الدولة ليست قوة قسرية تُفرض من الأعلى، بل شبكة تعاونية تُبنى على احترام التنوع وتمكين المجتمعات المحلية.
الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يشير إلى أن الدولة الحديثة يجب أن تُبنى على "عقلانية تواصلية" تضمن الحوار والتفاهم بين مختلف مكوناتها. الفيدرالية تحقق هذا الهدف عبر منح المناطق المختلفة القدرة على التعبير عن هوياتها وخصوصياتها، ضمن إطار وطني مشترك. في هذا السياق، يصبح الكورد أكثر من مجرد مكون يطالب بحقوقه؛ بل يمثلون نموذجًا للتنوع الذي يمكن أن يكون قوة دافعة لبناء وطن يتسع للجميع.
النظام الفيدرالي يوفر حلاً عميقًا للمشكلات التاريخية التي أفرزتها المركزية المفرطة. عبر تفويض السلطات للمناطق المختلفة، يقلل هذا النظام من التنافس على السلطة في المركز، وهو ما يسهم في نزع فتيل الصراعات المزمنة. سوريا، إذا أرادت تجاوز حالة التمزق الحالية، ومخلفات النظام السابق الكارثية، تحتاج إلى نموذج يسمح لكل مكون بالشعور بأنه جزء من الوطن دون التخلي عن هويته أو ثقافته.
الخطوة الأولى لإيقاف التصعيد تكمن في خلق بيئة سياسية تعترف بالتعددية كركيزة أساسية، حيث تصبح الفيدرالية أداة لتحقيق الوحدة من خلال التنوع. المؤسسات الدولية والقوى الإقليمية يجب أن تضطلع بدورها في دفع الأطراف السورية نحو حوار جاد حول مستقبل البلاد، على أن يكون النظام الفيدرالي أحد الركائز الأساسية لهذا الحوار.
استمرار خطاب الكراهية لن يؤدي فقط إلى تعميق الأزمة السورية، بل سيجعل البلاد ساحة لصراعات لا نهائية. النظام الفيدرالي ليس مجرد خيار، بل ضرورة لإعادة بناء سوريا كوطن يحتضن كل مكوناته، حيث لا تكون السلطة المركزية أداة للهيمنة، بل شبكة تشاركية تخدم الجميع. إذا أرادت سوريا أن تنجو من فوضى الكراهية والتشرذم، فإن الطريق يبدأ من الاعتراف بأن التعددية ليست عبئًا، بل أساسًا للوحدة.