بعد الإستفتاء الذي جرى في أيلول الماضي في كوردستان، إنتقلت فكرة الإضرار المباشر بمصالح الكورد وإستهداف إقليم كوردستان، من مرحلة الأمنيات الى مرحلة كسر الإرادات والصراع الدموي التي تزهق الأرواح، والإلتفاف لخداع المواطنين العراقيين بأن الإقتتال مع الكورد أفضل لهم من التريث والتأمل ودراسة الأضرار المحتملة والحوار السلمي والفعاليات السياسية. وإرتفع ضجيج خطاب الكراهية نحو الإستفتاء والذين قادوا العملية والمشاركين فيه، وإتسع مداه بلغة مخيفة وأثار المخاوف لأنه طغى وقمع الأصوات المعتدلة، وإعتمد على البعد القومي الشوفيني والتعصب الطائفي المقيت في تحريك المشاعر البدائية التي تحرض على العنف والكراهية ضد الشعب الكوردستاني، كما أثر بشكل سلبي على تبلور ثقافة شعبية يصعب إجتثاثها خاصة وأن المستفيدين منها عملوا على ادامتها وتصعيدها، بهدف إعادة انتخابهم مرة اخرى، أو لتكريس وجودهم في السلطة.
تسارعت الأحداث، وبدأ حيدر العبادي الطامع بأرث حزب الدعوة والحصول على الولاية الثانية، بإطلاق التصريحات النارية والإستعداد للحرب على الكورد من خلال إصراره على خلط جميع الأوراق وصب الزيت على النار، والتقرب من الأنانيين الهزيليين وأصحاب الضغائن والساذجين والفاشلين، وهم الكثرة الكاثرة التي أغرتهم الوعود وتناست أن الاقليم كان في التسعينات المأوى الآمن للمعارضين ضد النظام البائد، وبعد التغيير أصبح الكورد بيضة القبان في العملية السياسية، وكان لهم دور كبير في كتابة الدستور، وقالوا أن إجراء الإستفتاء مخالفة دستورية، وتناسوا فشل النظام السياسي والعجز في حفظ الشراكة الوطنية وتشطر التحالفات والأحزاب السياسية وتراكم المشكلات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، وأجراءات بغداد التعسفية وتجاوزها على حقوق المواطن الكوردي, وخروقاتها العديدة للدستور، وأن كوردستان أصبح ورشة أعمار ملموسة درج المسئولون الأمريكيون والأوربيون على زيارته كلما زاروا العراق، بينما ظلت محافظات الوسط والجنوب تعيش حرماناً وتخلفاً ،وتعاني من مشكلات لا تعد ولا تحصى، وفي وضع لا تحسد عليه.
رئيس الوزراء العراقي والسياسيين من كافة الكتل كانوا يعلمون بأن الاستفتاء لايعني بالضرورة إعلان دولة كوردستان بصورة فورية، بل كان يعني إستطلاعاً لرأي الشعب الكوردستاني وممارسة لحقه في تقرير المصير، ويعني ضمان حقوقهم في التملك والعيش بسلام، ووضع الأمور في نصابها والسير بالإتجاه الصحيح، ويعني تنظيم العلاقة بين الكورد والعرب وفق برنامج عقلاني ورؤية عقلانية. ولكن غرام الإنتقام ألهمهم وشجعهم، وأشباه الرجال الطامعين بالمناصب والإمتيازات دفعهم على ألإستعجال بعيداً عما يصيب الجميع من كوارث تختزن ما لا تحمد عقباه.
العراق أعلن إستعداده للحرب، وشن هجمات عدة على كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها. وفرض حظر الرحلات الدولية في مطاري أربيل والسليمانية، ليعاني الكورد من الحصار وليواجهوا عزلة دولية، والسيد العبادي سعى إلى زيادة سلب حقوق الكورد، وحاول إستحصال موافقة الأمريكان بشأن إستعمال طائرات إف 16، والأباتشي ضد الكورد، ، إلا أن الأمريكا رفضوا دعواته المتكررة.
في المقابل أدرك نيجيرفان بارزاني، الحاجة الماسة للجلوس الى طاولة الحوار، ودرء التداعيات المنذرة بالشؤم، وسماع صوت العقل والحكمة والاعتدال، والحيلولة دون تكرار التجارب العبثية التي تركت ندوباً وجروحاً لم نجن منها غير القتل المجاني وتثخين الجراح والخسائر. وإعتنم الفرصة الأخيرة قبل فوات الأوان، وقبل الدخول في أنفاق مظلمة والتوجه نحو مستقبل مجهول يضع الجميع مرة أخرى في دائرة القتال والتقاتل وحروب عنيفة تكون جميع أطراف الصراع خاسرة فيها، وتكون لها تداعيات خطيرة يمكن للأذكياء فقط التكهن بنتائجها الخطيرة. فأوقف السجالات السياسية التي تزيد الخلافات بين المركز والأقليم، كي لا يتأزم الوضع، وإتخذ إجراءات سريعة وأرسل رسائل عديدة الى بغداد ودول الجوار ومراكز القرار في العالم، وأخذ يناقش الأمور المتعلقة بالأستحقاقات المتعلقة بتطبيق الدستور وإعادة الأستقرار، كما دعى الى الحوار والتحاور بشأن الموارد النفطية والمنافذ الحدودية والمياه، وتكثيف الجهود من أجل الوصول الى حلول تمنع الأنزلاق نحو الطريق المجهول. وجمد نتائج استفتاء إستقلال كوردستان وبدأ بعقد لقاءات مع قادة في الكثير من أنحاء العالم من أجل الضغط على بغداد لتطبيق الدستور العراقي، وتلقى دعماً دولياً كبيراً لإجبار السيد العبادي على تطبيق الدستور العراقي بشكل صحيح. واتفق الأمريكيون والفرنسيون وغيرهم من اللاعبين المهمين على أن الطريقة التي إنتهك بها السيد العبادي الدستور العراقي أمر غير مقبول.
وبفضل حنكته الدبلوماسية استطاع إغلاق الطريق أمام إندلاع حرب دامية كانت ستخلف كارثة إنسانية، ذكر المحلل السياسي، راشيل أفراهام، في مقال نشره في صحيفة واشنطن تايمز الأمريكية، أن نيجيرفان البارزاني، مسؤول ملتزم بالسلام والحوار والتفاوض ويسعى إلى إيجاد مخرج إيجابي يمنع وقوع الحرب، لذلك يستحق الترشح للحصول على جائزة نوبل للسلام.
البارزاني، وبإتزان وبحكمة وصفات رجل الدولة المجرب من الطراز الرفيع، لا يرد على التصعيد بتصعيد مماثل وعلى إستحضار العنف بإستحضار مشابه، بل يرد بهدوء بعيد عن التوتير وعلى أساس المصالح المتبادلة، ويفكر في الحلول المعقولة والمقبولة، على المديين القريب والبعيد. ولا يريد حرباً اخرى في المنطقة. حقاً السيد راشيل أفراهام، صائب في إقتراحه لمنح جائزة نوبل للسلام للبارزاني.