انقضت صلاحية الاستراتيجية السابقة المرسومة للاعوام 2011-2022 من دون ان تحقق ما كان مخططا لها من تطبيق، وقد يعود ذلك لعدة اسباب منها تعاقب الوزراء والتغيير المستمر للقيادات العليا في الوزارتين وانعدام الاستقرار والتمويل وتغيير التشريعات والتعليمات المنظمة لقطاع التعليم، واهمال التركيز على الصورة الكبيرة والأهداف الاستراتيجية والرؤية المستقبلية والتخطيط والتحليل والتقييم للأداء والنتائج، والاقتصار على التركيز على أمور ثانوية أو غير مهمة والتحكم في العمليات الروتينية واحكام القبضة على الجامعات بشكل مباشر مما ادى الى فقدان المرونة والقدرة على التكيف مع التغيرات واضاعة فرص التطوير والاصلاح . وبررت الستراتيجية الجديدة هذا التلكؤ في التنفيذ الى: "الظروف الامنية والمالية التي تعرضت لها البلاد في عام 2014 ". ومع ذلك، وضعت فصلا خاصا بعنوان "تقييم وتجاوز التحديات" عددت فيه منجزات ومبادرات وزارتي التربية والتعليم العالي معتبرة اياها جزءا من برامج الستراتيجية .
الستراتيجية الراهنة تشكل فرصة جديدة وهامة لإصلاح قطاع التعليم في العراق، خصوصا انه يواجه تحديات كبيرة نتيجة لسنوات من الصراعات والأزمات. كما تستجيب للاحتياجات المتغيرة لسوق العمل والمجتمع المدني في ظل الثورة الصناعية الرابعة. لكن تحقيق أهداف الاستراتيجية يتطلب التزاما سياسيا قويا من جانب الحكومة، وشراكة فاعلة مع جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك المعلمين والتدريسيين والطلاب، ودعم مستمر من المانحين والشركاء الدوليين.
تتميز الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم في العراق للفترة من 2022 إلى 2031 عن سابقتها بكونها خطة طموحة لحلول وخطط وبرامج اكثر سعة ونطاق تسعى إلى رفع مستوى الجودة والكفاءة والشمول في نظام التعليم العراقي، وتزويد الشباب بالمهارات والمعارف التي تمكنهم من المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل، وتحسين المهارات التطبيقية للخريجين، وضمان نموذج تمويل مستدام للجامعات. وهذا، بقدر ما هو يمثل اهداف سامية، يثير القلق والشك في قدرتها على تحقيق ما تصبو إليه، فهي تسعى إلى تحقيق مستوى لا يتناسب مع حالة الأمور المتردية التي يعيشها التعليم.
وعلى الرغم من طموح وشمولية الاستراتيجية، الا أنها واجهت بعض الثغرات ونقاط الضعف، والتي يمكن تلخيصها كالتالي:
1- الستراتيجية لاتبدو شاملة للعراق باكمله لانها كما يظهر لا تشمل العراق عامة بمدارسه وجامعاته في كردستان العراق. انها استراتيجية للتربية والتعليم في الجنوب والوسط تتضمن "التعاون مع الحكومة الإقليمية في كردستان والجهات المانحة والشركاء الدوليين لتحسين جودة التعليم في الإقليم". ولا افهم كيف انها تهدف إلى "توحيد المناهج والمقاييس والشهادات في جميع أنحاء البلاد" بينما تهمل معايير ومؤشرات التربية والتعليم في جزء من البلاد.
2- تتميز الستراتيجية بضعف المعلومات او الاحصائيات عن المدارس والكليات والجامعات الاهلية ومن النادر ان نجد معلومات كافية عن دور المدارس الجامعات والكليات الاهلية ولا نتعرف عن حقيقة الارقام وهل هي تمثل التعليم الحكومي ام مجمل التعليم العام. لذلك، لا يمكن اعتبار هذه الستراتيجية كاملة وتهتم بالتعليم في البلد كله، بل تحتاج إلى مراجعة وتحديث لتشمل القطاع الأهلي والأجنبي في خططها وبرامجها وسياساتها.
3- بالرغم من الاستراتيجية هدفت إلى توفير فرص التعليم العالي اعتماداً على متطلبات سوق العمل، وللارتقاء بجودة مكونات نظام التعليم العالي بضمن العديد من الاهداف، الا اني لم أجد أي ذكر للكفاءات والخبرات والعقول البشرية في الخارج كجزء من هذه الاستراتيجية. ربما يكون هذا نقصاً في الاستراتيجية، لأن هذه الفئة من الموارد البشرية يمكن أن تساهم في تطوير التعليم في العراق من خلال نقل المعرفة والخبرة والابتكارات التي اكتسبوها في بلدان أخرى. كما يمكن أن تساعد في تحسين سمعة الجامعات العراقية على المستوى الدولي، وتشجيع التعاون الأكاديمي والبحثي مع مؤسسات عالمية. إذن، يبدو أن هناك حاجة إلى إعادة النظر في هذه الاستراتيجية لإدراج هذه الفئة كشريك مهم في تطوير التعليم في العراق.
4- لم تبدي الستراتيجية اي اهمية او خطة او اشارة الى اهمية الاعتماد الاكاديمي الدولي للجامعات ومؤسسات التعليم العالي في تطوير التعليم وضمان الجودة ولا على اهمية المشاركة في برنامج التقييم الدولي لطلاب المدارس (PISA) مما يدل على قصر نظر واضعي الستراتيجية وعدم إدراكهم للفوائد الجمة التي توفرها محركات التعلم هذه. اما عدم الاهتمام بالتصنيفات الجامعية الدولية ولا الى المشاركة فيها فانه يدل على اختلاف واضح مع سياسة التعليم العالي الحالية وعلى قناعة واضعي الستراتيجية بعدم جدوى هذه التصنيفات في تطوير التعليم العالي ولربما ايضا الى قناعاتهم (وقناعتنا ايضا) بانها بالواقع تعرقل تطوير الجامعات.
5- تخلو الإستراتيجية من التحديات أو الثغرات أو المجالات المحتاجة إلى تطويرالتعليم فقد اشار بعض المحللين إلى أن الإستراتيجية كانت ضعيفة في مجالات مثل دور المجتمع المدني في التربية والتعليم، أو احتواء التطورات التكنولوجية، أو مواءمة المخططات التشغيلية مع المخططات الإستراتيجية. كذلك، قد يكون هناك بعض الصعوبات في تنفيذ الإستراتيجية ومتابعتها وتقييمها ورصدها، خاصة في ظل الظروف الأمنية والمالية والسياسية المتغيرة في العراق
كما يمكن أن نشير إلى بعض المجالات التي اهملتها الاستراتيجية، مثل:
1- التكافؤ: حيث لم تركز الاستراتيجية بشكل كاف على معالجة التفاوت في فرص التعليم بين المناطق والفئات المختلفة، وخاصة في ظل تأثير الصراع وانعدام الأمن على بعض المجتمعات.
2- التطوير: حيث لم تشمل الاستراتيجية بشكل واضح خططا لتطوير المناهج والبرامج التعليمية، ورفع كفاءة ومهارات المعلمين والأساتذة، وإدخال التقانات الحديثة وتدريب المهارات في عملية التدريس والتعلم.
3- التشارك: حيث لم تستفد الاستراتيجية بشكل كاف من مشاركة أصحاب المصلحة في قطاع التعليم، مثل الطلاب واهاليهم والمجتمع المدني والقطاع الخاص، في صياغة الأهداف والسياسات والبرامج
4- الفساد الاداري والمالي: حيث يمكنه من عرقلة او افساد اي مشروع تضمنته الستراتيجية وهو بذلك اصبح عائقا رئيسيا امام اصلاح او تطوير التربية والتعليم في العراق.
5- الاخلاق الاكاديمية: تعتبر ظاهرة الغش والانتحال والسرقات العلمية السبب الرئيسي لاستشراء الفساد والجهل المجتمعي، ونمو الأمراض المجتمعية وتدهور الاقتصاد.
6- الحريات الاكاديمية: بدون الحرية الفكرية وبدون الانفتاح واحترام الرأي الاخر ونبذ الاقصاء وبدون تربية العقل النقدي وتحفيز العطاء والابداع وتقديم البراهين وطرح البدائل والتي تساهم جميعها في الخروج من اطار الافكار الجاهزة والقناعات النمطية والتفكير الشمولي، فأن المؤسسات التعليمية تتحول الى مجرد مكان لتلقين المعارف الجاهزة ومعقلا لركود الفكر ولمقاومة التغيير وتحديث المجتمع.
هذا وعانت الاستراتيجية من بعض الضعف في مجالات مثل:
1- التمويل: حيث تحتاج الاستراتيجية إلى كلفة تقدر بـ 140 ترليون دينار خلال السنوات العشر المقبلة، وهو مبلغ كبير يتطلب زيادة حصة التعليم من الموازنة العامة والإنفاق على التعليم من الناتج المحلي الإجمالي. ولتغطية هذه الكلفة، تضمنت الاستراتيجية ثلاثة معايير رئيسية لزيادة التمويل لقطاع التعليم، وهي:
• زيادة حصة قطاع التعليم من النفقات الحكومية من 10% في عام 2021 إلى 16% في عام 2031.
• زيادة الإنفاق على التعليم من 11 ترليون دينار في عام 2019 إلى 29 ترليون دينار في عام 2031 وهو ما يعادل 5.6% من الناتج المحلي الإجمالي.
• استحداث بند خاص في الموازنة العامة للدولة لتمويل مشاريع برنامج “تطوير وتأهيل مشاريع تحويل التعليم”، والذي يشمل بناء وتأهيل المدارس والجامعات والمختبرات والمكتبات والورش والملاعب وغيرها من المرافق التعليمية
ندرك أهمية الزيادة الهائلة في حصة التعليم لتنفيذ الستراتيجية، لكن هل ستكون قابلة للتحقيق؟
2- التنفيذ: حيث تعتمد الاستراتيجية على فرضيات وتوقعات للتحسن التدريجي لمؤشرات التعليم، إلا أنها تتوقف على الاصلاحات المذكورة بها، والتي تحتاج إلى تنسيق متقن وتكامل محكم بين مختلف الجهات المعنية.
3- التقييم والمتابعة: حيث تحتاج الاستراتيجية إلى آليات وأدوات فعالة لقياس مدى تحقيق الأهداف والأولويات المحددة، وتحديد نقاط القوة والضعف في عملية التطبيق، وإجراء التعديلات والتحسينات اللازمة. في هذا الصدد، فأن تشكيل لجنة عليا من وزراء للاشراف على تنفيذ الاستراتيجية سيقوض عملها بسبب احتمالية التناقض الكبير بين الأهداف السياسية للوزراء والأهداف التربوية للاستراتيجية.
هل من اختلاف عن استراتيجيات الدول المتقدمة؟
بالرغم من توافق الستراتيجية العام مع استراتيجيات الدول المتقدمة للتربية والتعليم الا انها اختلفت عنها بعدة نواح، منها:
1- درجة التنفيذ والإشراف: فالدول المتقدمة تتمتع بإطار قانوني وإداري وفني يضمن تطبيق استراتيجياتها بشكل فعال وشفاف، وتحقق مؤشرات محددة وقابلة للقياس، بالاضافة إلى مشاركة جميع الشركاء المعنيين في عملية التخطيط والتقويم. أما في العراق، فإن هناك عوائق كثيرة تحول دون تحقيق رؤية الاستراتيجية، مثل ضعف البنية التحتية والإمكانات المادية والبشرية، وانعدام الأمن والاستقرار، والتأثيرات السياسية والدينية، وغياب ثقافة احترام المؤسسات التعليمية والمركزية الشديدة في صنع القرار.
2- محتوى التعليم والتعلم: فالدول المتقدمة تسعى إلى تطوير مناهج تعليمية مبتكرة ومتكاملة، تركز على تنمية المهارات الأساسية للقرن الحادي والعشرين، مثل التفكير الناقد والإبداع والتواصل والتعاون، وتستخدم استراتيجيات تدريس متقدمة تشجع على التعلم الذاتي والنشط والاستكشافي، كما تستفيد من التكنولوجيا الحديثة في إثراء بيئات التعلم. أما في العراق، فأن محتوى التعليم والتعلم يعاني من الجمود والتقليدية، ويتركز على حفظ المعلومات وإعادة إنتاجها، دون تطبيقها أو تحليلها أو ربطها بالواقع، كما تستخدم استراتيجيات تدريس تقليدية تعتمد على الشرح والمحاضرة، دون تفاعل أو تشارك بين المعلم والطالب، كما تكاد تغيب التكنولوجيا عن معظم المؤسسات التعليمية.
3- نتائج التعليم والتعلم: فالدول المتقدمة تحقق نتائج متميزة في مجال التعليم والتعلم، تظهر في ارتفاع مستوى الأداء الأكاديمي لطلابها في الاختبارات الدولية، مثل برنامج التقييم الدولي لطلاب المدارس (PISA)، وارتفاع مستوى الإنجاز والابتكار في مجالات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وارتفاع مستوى التوظيف والإنتاجية لخريجيها في سوق العمل. أما في العراق، فإن نتائج التعليم والتعلم تبقى دون المستوى المطلوب، حيث يحتل العراق مراتب متأخرة في التصنيفات الدولية لجودة التعليم، ويشهد نقصاً في الكفاءات العلمية والابداعية، ويواجه صعوبات في توفير فرص عمل مناسبة لخريجيه.
واخيرا، وباختصار، الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم في العراق 2022-2031 خطة طموحة تهدف إلى تحسين جودة وفعالية وشمولية النظام التعليمي في العراق، وتعزيز دوره في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد. تقييمي للاستراتيجية هو أنها خطوة إيجابية نحو رفع مستوى التعليم في العراق، لكنها تحتاج إلى تدارك النواقص والثغرات ونقاط الضعف المذكورة اعلاه، والى التزام حكومي وشراكة مجتمعية لتنفيذها بنجاح.