في البداية لست مختصاً بالكتابة عن فن المسرح ولا أستطيع تقيم أي عمل مسرحي بقدر ما اعتبر نفسي من المتابعين والمهتمين، وأتمنى ان يقبل الفنانين المسرحيين هذا التدخل واعتذر منهم ان وقعت في خطأ غير مقصود.
بقدر خوصنا في أعماق تاريخ الامم تبيّن بان الأعمال الفنية بكل أشكالها وأنواعها هي التي تحدد مدى تقدم تلك الأمم ومساهمتها في بناء الحضارات الإنسانية، وإن ما بقي لنا من تاريخ الأمم وآثارها ما هي إلا جزء من أعمالهم الفنية من نحتّ واختراع وتصميم وصناعة وتركيب وإنتاج، هذه الأعمال هي مدخل للدراسات والبحوث العلمية والتحقيقات للحضارات البشرية السابقة من قبل الباحثين والمؤرخين والمختصين.
انطلاقاً من هذه الرؤية، فإن جميع الشعوب تهتم بالفن والثقافة وتعدّها رسالة إنسانية تخاطب من خلالها الشعوب الأخرى وتعبر عن ذاتها وثقافتها وتراثها ودورها الحضاري.
الشعب الكوردستاني هو إحدى شعوب العالم الذي عاش منذ آلاف السنين على أرض، وساهم بشكل كبير في بناء الإنسانية بقدر ما سمح له الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأن أرضه كان على مر التاريخ ساحة للصراع بين القوى العالمية الكبرى، ولكنّ كلما سنحت له الفرصة أبدع وارتقى إلى مستوى عالي يحسد له الآخرين.
لأيام وأشهر طويلة ونسمع هنا وهناك اخبار بأن نخبة من الفنانين من محافظتنا دهوك الجميلة بتاريخها وتضاريسها ومناخها وطيبة أهلها وسعة صدرها منشغلون بعمل فني مسرحي كبير باسم ( ملحمة كوردستان) فاشتقنا للحضور والمشاهدة، قبل ايام وبالتحديد في 11/9/2024 وبمناسبة الذكرى(63) لثورة أيلول العظيمة وبحضور السيد الرئيس ( مسعود البارزاني) بدأ العرض وبعد انتهائه ألقى سيادته كلمةً قيمة عبّر فيها عن سعادته بهذا الإنجاز التاريخيّ الكبير، مما زاد من حبّنا واشتياقنا للحضور ومشاهدة هذه المسرحية التي تعدّ فعلاً عملاً وطنياً وثقافياً مميزاً، وأن الحضور الجماهيري الكبير في قاعة المؤتمرات دليل على أهمية المسرح وحب شعب كوردستان وخاصةً اهلنا في محافظة دهوك له وعطشهم للأعمال الفنية وإيمانهم بأن ما يمكن نقله من رسالة إلى العالم الخارجي بهذه الطريقة يفوق الخيال وإشارة واضحة بإيمان الجمهور بقدرات أبناء مدينتهم ودعم لهم لتقديم المزيد والمزيد، ودائماً هذا ما ينتظر منهم بل وأكثر.
تشرفنا بالحضور في قاعة المؤتمرات فيو الاثنين الموافق 16/9/2024 في الساعة الخامسة عصراً بعد أن امتلأت بالجمهور، لتبدأ العرض المسرحي بموسيقى حماسية وضوء جميل وبكلمة افتتاحية من قبل الشاعر المعروف( برهان زيباري) التي ذهبت بنا الى تاريخ عيد النوروز قبل 2724 سنة وكيف تصدى كاوة الحداد للظلم والإضطهاد مروراً بفترة حكم صلاح الدين الأيوبي وخاني ومولانا خالد النقشبندي ونشوء الفكر القومي والثورات والانتفاضات الكوردية وما تعرض له الشعب الكوردي من قتل وتهجير وتدمير وتقسيم أراضيهم على أيدي القوميات المجاورة بمباركة القوى الكبرى وجمهورية كوردستان في مهاباد وتسليم العلم الكوردستاني للبارزاني الخالد ومسيرته الى الاتحاد السوفييتي السابق وعودته إلى العراق بعد ثورة 14 تموز 1958 وتغير الحكم الملكي بالجمهوري، ونكوصهم للعهود بمنح الحقوق والحريات للشعب الكوردستاني والبدء بثورة أيلول في 11/ايلول/ 1961 التي انتهت باتفاقية 11من آذار 1970 وبعدها اتفاقية الجزائر المشؤومة والبدء بثورة كولان التقدمية وبعدها الانتفاضة الشعبية وما تلتها من احداث ومواقف إلى ان انتهت باتخاذ قرار الاستفتاء الشعبي في إقليم كوردستان وإجراءه في 25/9/2017 وهجوم الجيش العراقي على الإقليم وتسجيل ملاحم بردى وسحيلا على أيدي قوات البيشمركة الأبطال.
أحداث المسرحية كانت متسلسلة ومترابطة ومتداخلة حيث أبدع كاتبها في سرد الأحداث وأبدى الممثلين دورهم بشكل مميز حيث بدى عليهم المهارة الفنية والجرأة والشجاعة والقدرة على تحمل المسؤولية وعدم اليأس رغم التنقل بين الأدوار المختلفة بحيث كانوا يذهبون بالجمهور الى ذلك الواقع والمشهد وملابسهم كانت ملائمة جداً، أما الموسيقى فقد كانت قادرة على السيطرة على قلوب الجمهور وجعلهم منسجمين ومتفاعلين مع المشاهد واحداً تلو الآخر بالتصفيق الحار، أما المخرج الشاب ومن ساعده كانوا مبدعين جداً في عرض المشاهد واستطاعوا التأثير على الحضور بالحزن والسرور.
مسرحية ( ملحمة كوردستان) استطاعت وبجدارة تحديد اسباب ضعف الشعب الكوردستاني التي تكمن في الانقسام والتجزئة رغم نداءات العلماء والمفكرين والمثقفين وأكدت أنّ القوة في الوحدة، وكانت الإصرار على البقاء والعزيمة سمات واهداف أساسية لها، مشاهد كثيرة كانت مؤثرة جداً بحيث أبكت الجمهور ونزّلت الدموع من العيون وخاصةً عندما كان يتعرض الشعب إلى القتل والاهانة والتمثيل وليس لهم مدافع او مناصر بل كانت تستحل دمائهم وأموالهم.
باختصار كانت مسرحية رائعة ومتميزة ورسالة صريحة وصادقة إلى الجيل الجديد بأن تاريخنا عريق ومليئ بالإنجازات ولكن الآخرين هم من كتبوها كيفما تقتضيه مصالحهم وساهمت بشكل كبير وإيجابي على تنمية الحس القومي لدى الحاضرين وتمكنت من تحقيق تغيير حقيقي فيهم بشكل أصبحوا يفتخرون بتاريخهم وثقافتهم، اضافة الى ان منجزات اليوم هي حصيلة سنوات من النضال والتضحية وانهار من الدماء والدموع وليست منّة أو صدقة من أحد.
من ناحية أخرى كانت المسرحية رسالة واضحة بأننا نملك قدرات فنية هائلة وخير ما نحتاجه هو مجرد تفكير سليم وتخطيط دقيق وإدارة جيدة وسيأتي الثمار رغم كل الظروف والتحديات، وأن الحضور الجماهيري الكبير الذي كانت نسبة العوائل الحاضرة عالية دليل على مدى عطشنا للحرية ووعينا لأهمية معرفة التاريخ الحقيقي لشعبنا واشارة الى أننا شعب نريد الخير للجميع ومسالم ولكننا لا نستسلم لارادة الآخرين مهما كانت الثمن.
أبارك جميع القائمين بهذا العمل الفني الجميل وأشد على أيديهم وأدعوا لهم بالتوفيق والنجاح واقول لهم لقد كفيتم ووفيتم وما دام لمدينتا من أمثالكم فالأعمال القادمة ستكون أفضل وأبهر باذن الله تعالى.
وصدق من قال ( أعطني قطعة خبز وخشبة مسرح أعطيك شعباً مثقفاً)