يتناسى البعض، أن الوجود الأمريكي في غربي كوردستان ليس حبا بالكورد، ولا للدفاع عن مصالحهم أو مقدمة لدعمهم في حق تقرير المصير، بل هي من ضمن متطلبات مصالحها في المنطقة، لذا ليس لها مِنةٌ على الكورد، ولكن وللضعف الكوردي أمام القوى المحتلة لوطنهم، يتقبلون كل دعم خارجي وخاصة إذا كانت من دولة عظمى كأمريكا أو روسيا، حتى ولو أدرجوها كفضل، وطلب منهم مقابلها التضحية وتنفيذ أجندات عسكرية أو سياسية، ولإدراكهم لهذه المعادلة يتم التعامل مع قوات قسد والإدارة الذاتية كقوات خدمات وأدوات عند الطلب، مارست روسيا هذا النوع من التعامل قبل أمريكا، فلا تحرك مشاعرهم حتى ولو دمرت كل المنطقة ما دامت مصالحهم آمنة.
فمعاتبة الإدارة الذاتية على تعاملها مع أمريكا وتقبل شروطها في محاربة الإرهاب خارج جغرافيتها، والتخلي عن روسيا، حكم ضحل، فليست القوى الكوردية هي التي اختارت، أو لنقل أن اختيارها كانت ما بين العدم أو الحياة؛ تحت أجندات القوى الكبرى، ولا عتب فجميع دول المنطقة وبدون استثناء ظهرت إلى الوجود على المنهجية ذاتها، وبعضها لا تزال تابعة لهم، ومن بينهم الدول المحتلة لكوردستان، لكن الخلاف هو أن الاختيار الكوردي لأمريكا لم تكن بإرادتها، بل أن روسيا هي التي فضلت النظام في دمشق على الكورد، بعدما كانت على أبواب فتح قنصلية لهم في موسكو، أي وضعت مصالحها فوق كل الاعتبارات، وبالمقابل علينا أن لا نتعامى على أنه بدون الحضور الأمريكي لكانت اليوم دولة داعش تحتل نصف سوريا والعراق، وضمنها نصف كوردستان.
وما يقال عن التحالف مع الدول والأنظمة على مبدأ الثقة، جهالة سياسية ليس إلا، فأمريكا دخلت على الخط، جلبت معها مصالحها وليس الثقة والقيم، ومصالحها تقاطعت مع دعمها لقوات حماية الشعب يوم كانت داعش تعبث ضمن شوارع كوباني، وفي الواقع، ربما قدمت الدعم للقوة الكوردية للدفاع عن الذات، ولكن في البعد العام كانت لحماية الشعب الأمريكي والأوربي الذين دخلوا معها لمحاربة الإرهاب تحت أسم التحالف الدولي، ولا شك استفادت القوة الكوردية من المعادلة وتمكنت من: ليس فقط إنقاذ المنطقة من الإرهابيين، بل اضطرت وتحت الضغط الدولي المذكور بالقضاء على داعش بشكل شبه كامل عسكريا على الأقل، وإلا فإنها كانت ستتخلى عنهم فيما لو لم تستمر في محاربة المنظمة التكفيرية إلى النهاية، كما فعلها دونالد ترامب، دونها لكانت احتمالية عودة داعش ثانية إلى المنطقة الكوردية مرجحة، أو قوة تكفيرية مشابهة لها، وفي الحالتين كانت ستسيطر على المنطقة قوى تكفيرية، وهو ما حدث لعفرين بعد سنوات، وكما نعلم فقد أدرجوا الكورد وبمنهجية في خانة الكفر، كما فعلها الخميني قبل نصف قرن، يوم حلل الدم الكوردي.
موضوع حديثنا هذا يأتي على خلفية بعض المقارنات بين الدولتين، أمريكا وروسيا، وتركيا إلى حد ما، ولماذا لا ترد على الهجمات التركية على المنطقة الكوردية، أو لماذا تسمح لها بالتمادي والإجرام، متناسين أن الولايات المتحدة الأمريكية إمبراطورية تتحكم بمصير الكرة الأرضية، من خلال مصالحها، ولها يد في جميع قضاياها، تواجه عندما تتعرض أمنها أو مصالحها إلى خطر أو اعتداء ما، وتملك كل إمكانيات الردع، وهي لا تختلف عما كانت عليها الإمبراطورية الرومانية في عزتها. قوتها الاقتصادية والعسكرية تتجاوز التقديرات. فعلى سبيل المثال: دخلها الوطني وبدون رأسمال شركاتها الجبارة، تعادل الدخل الوطني لكل من أوروبا وروسيا واليابان مجتمعة، تتجاوز 22 تريليون دولار، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه الدخل الوطني الروسي 3 ونصف تريليون دولار، وما تصرفه على السلاح أكثر مما تصرفه روسيا بخمس عشرة مرة، فميزانية وزارة الدفاع تقترب من 850 مليار دولار بدون الشركات الخاصة مثل شركة بوينغ التي تقدم أنواع من طائراتها، في الوقت الذي تصرف روسيا على السلاح ما بين 70-80 مليار دولار.
ليس انتقاصا من القوة الروسية، وهي التي تملك أمكانيات خام هائلة، وقوة بشرية وعلمية تضعها على قمة مصاف الدول الكبرى، أي أنها إمبراطورية، وهي لا تزال تملك الكثير من مركزها كقطب ثاني في مواجهة أمريكا، رغم ما تعانيه اليوم، وتنزف لضعف حصل لم يكن واضحا ربما حتى لبوتين ذاته.
فهما كقطبي صراع، يضعون مصالحهم فوق كل الاعتبارات كاي إمبراطورية، وهذه الحقيقة هي التي دفعت بأمريكا الانسحاب من أفغانستان للتحضير للحرب الأوكرانية، وتدفع بها التمسك بالمنطقة الكوردية؛ غرب وجنوب كوردستان، ومنع تركيا من التمادي أكثر ما فعله ترامب كخطأ يدفع ثمنها أمريكا الأن، وهي التي تدفع بها بعدم الرد على الجرائم التركية والقصف العشوائي بحق المدنيين في غرب كوردستان، وهي التي تزيل كل القيود على المساعدات الهائلة لأوكرانيا، وبالقطارة للإدارة الذاتية والإقليم الفيدرالي الكوردستاني، فعلى كل من يدرس هذه الجدلية عليه أن يفصل بين أمريكا كإمبراطورية ومنظماتها الحضارية، فهنا عن الأولى نتحدث، وعادة تكون ردودها قاسية عندما تتعرض إلى الخطر.
كإمبراطورية لا تهمها الشعوب أو الأنظمة بقدر ما تهمها مصالحها ومصالح شركاتها، ووجودها في المنطقة الكوردية، شرق الفرات، بناء على إستراتيجية واسعة تخص الشرق الأوسط عامة، وفي مقدمتها حماية شعبها من الإرهاب، وهنا وفي واقع غربي كوردستان، تركيا تدرس هذه المعادلة، لذلك قدم أردوغان توضيحا بأنه لم يستهدف الأمريكيين في المنطقة ولن يقصف المعسكر الأمريكي، رداً على تصريح الجنرال باتريك رايدر مسؤول الأول في البنتاغون، عندما قال أن الاعتداءات التركية تضع أمن جنودنا في خطر، بعد القصف الذي تم على بعد 130 مترا على أطراف معسكرنا.
أردوغان يدرك أن التعرض لمصالح أمريكا سوف يدفع الثمن غاليا، وهو ما حدث عندما تعرض إلى المصالح الروسية وأسقط طائرتهم، وبعدها وللمصالحة تنازل عن المعارضة السورية في الزبداني والغوطة الشرقية وشمال حماة وحلب القديمة، ودرعا، وحصرهم في منطقة إدلب حسب المتطلبات الروسية، وقريبا ستتاجر بالبقية فيما لو سمحت لها روسيا بالهجوم على منطقة تل رفعت والمنبج، وعليه من المتوقع أن روسيا هي التي دفعت بطائرتها للتحليق في اجواء تركيا لتحصل على ما كانت ترغبه، والعملية هي ذاتها ما بين أمريكا وروسيا وجرها إلى مستنقع أوكرانيا.
والحنكة في العلاقة الكوردية مع الإمبراطورية الأمريكية في الوقت الحالي، هي أن تتمكن من نقل التقاطع بين مصالحها ومصالح أمريكا، من البعد العسكري المبني على محاربة الإرهاب إلى سويات أخرى، سياسية اقتصادية، والدفاع المشترك، فكلما تعمقت وتوسعت التقاطعات ازدادت حاجتها لمنطقة أكثر أمانا، وإدارة ذاتية أقوى.
ومن السذاجة الطلب من أمريكا الدفاع عنها مقابل ما قدمته من خدمات ضد داعش، بل الدراية هي جرها لحالة تضطر إلى الدفاع عن المنطقة التي تجد فيها مصالحها وأمن شعبها، هذا ما تمكن منه بشار الأسد مع روسيا، والتي دافعت عنه ليس حبا به، بل حماية لمصالحها وصراعها مع الوجود الأمريكي في المنطقة.
وهي ذاتها التي دفعت بأردوغان التخلي عن معظم اطراف المعارضة السورية، وعن الإخوان المسلمين المصريين، وعن قضية خاشقجي، وقلص من علاقاته مع الناتو لإرضاء روسيا، وتغاضى عن الصراع المذهبي مع إيران ليتمكن من محاربة الكورد، وتخلى عن طموحه في رئاسة العالم السني ومحاربته السعودية من أجل الحصول على بعض الصفقات التجارية مع القليل من الدعم الاقتصادي، وانتقل من منهجية الإسلام الليبرالي إلى الإسلام الراديكالي للتقرب من أموال قطر، وغيرها من التغيرات السياسية.
أجمالا أردوغان لم يثبت على خط سياسي طوال العقدين الأخيرين، بل ظهر كأحد أكثر الأنظمة في العالم تغييرا في إستراتيجيته، وفي قيمه حسب مصالحه، تجاوز بها منطق الإمبراطورية الأمريكية المعروفة بعدم الثقة، وهي الجدلية الساذجة التي يستخدمها البسطاء من السياسيين، والذين يبحثون عن القيم والأخلاق في العلاقات الدولية، وينسون أو لا يعلمون أن الأسس التي تبنى عليها الأنظمة والدول، وخاصة الإمبراطوريات، تنعدم فيها الثقة المطلقة والأخلاق الحميدة والأصدقاء الدائمين، بل هناك المصالح، كما قالها قيصر روما " ليس لروما أصدقاء أو أعداء دائمين بل لروما مصالح دائمة"، وقالها ونستون تشرشل وبعد قرون طويلة، وأصبحت معروفة باسمه " ليس هناك أصدقاء دائمون. ولا أعداء دائمون. ولكن توجد مصالح دائمة".