دعونا بادئ ذي بدء تعريف حيتاننا الأكثر شهرة في العالم، فهي لا تشبه أي كائن  على الأرض بمواصفاتها لأنها مخلوقات مائية هلامية ناعسة تنحدر من سلالات رخوة وملساء، تطورت بسرعة مذهلة وغادرت مياهها لتنتقل إلى المدن والقصبات، لتنشئ مستعمراتها وعشرات المستوطنات وتمتص ما حولها من ماء ودماءٍ وأموال دونما أن يشعر بها أحد، إلى أن يصاب بالجفاف من دمائه وأمواله ورطوبته، هي إذن ليست تلك المخلوقات التي احتاجت ملايين السنين لكي تتطور في فسلجتها ووظائف أعضائها، لقد اختصرت الزمن أو أحرقت المراحل على ثقافة أهل الانقلابات والأحزاب الجدا ثورية والانقلابية في دفع دولهم إلى الأمام وابتداعهم للخطط الخمسية والانفجارية التي أنتجت هذه القطعان من الحيتان الوديعة الملساء.

 

     ولكي لا نجهد أنفسنا في البحث عن الجذور الأولى لهذه الكائنات، ونستقدم من القبور السيد داروين أو مندل، فإننا سنتناول نوعين مهمين منها، وهما النوعان اللذان يعيشان معنا ويمارسان ( نشاطيهما الحياتي ) وسط مجتمعاتنا التي اكتظت بهما.

  الأول؛ بدأ بالتحول مع قيام جمهوريتنا العتيدة في 1958 من مخلوقات انتهازية مسطحة الأدمغة هلامية الأشكال عاطلة عن العمل والتفكير، جائعة وغرائزية الطباع، لا تنتمي إلى أي طبقة أو عرق أو دين أو مذهب معين، فهي تستخدم كل هذه ( المقتنيات والتقنيات ) من اجل عملية تطورها إلى حيتان وديعة ملساء، جاءت من العصر الملكي ودخلت الحقبة الجمهورية الخالدة وهي ما زالت تهتف للملك المفدى عبد الكريم قاسم، لا خباثة في ذلك بل هذه كل معلوماتها وثقافتها ونيتها الصافية النقية، وسرعان ما تغلغلت و ( إندحست ) إلى مفاصل الأحزاب الثورية جدا والرجعية جدا جدا والقومية أو الدينية جدا جدا جدا، والى الجمعيات والمنظمات التي كان من المفروض إنها تمثل مخلوقات إنسانية، فأصبحت خلال سنوات مراتع للحيتان.  

      

   وخلال سنوات قليلة تحولت هذه المخلوقات إلى حيتان وديعة التهمت كل ما حواليها من نِعم الأحزاب والانقلابات الثورية والقوات المسلحة في حروبها ( القومية والتحررية والجهادية المقدسة ) وتأميم النفط وتحويل موارده للعشائر الحيتانية في كل أنحاء العالم لخدمة مصالح الأمة ووحدتها ومستقبلها الذي نشهد اشراقاته الآن، وفي اقل من نصف قرن تحولت تلك المجاميع إلى طبقات وعشائر من أصناف وأنواع رهيبة، لا تمت للإنسان العادي بأي شكل من الأشكال، وانتشرت في ربوع العراق بوداعة تلتهم كل شيء إلا ( الحلال ) تحت ظلال السيوف والمبادئ والوطنيات ومستقبل الجماهير والأمة، ودوما يكون في حمايتها ( المقاومة الشعبية ) أيام الزعيم الأوحد و( الحرس القومي وشقيقه الجيش الشعبي ) أيام بطل القادسيات و ( الحشد الشعبي ) أيام مختار العصر وخليفته المبتسم والمتفائل جدا!

 

     والغريبُ فيها بل المثير أنها تختلف في كل شيء فيما بينها إلا في السلوك، فهي تتلون مع البيئة التي تعيش وتترعرع فيها، فلا تكاد تعرف ألوانها التي تغيرها من لون إلى آخر  كالضفادع حسب مكان عيشتها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن الرفيق ماركس قدس سره إلى الرفيق المجاهد القرضاوي دام ضله، فهي تتنقل برخاوة وانسيابية رهيبة بين كل هذه العوالم دونما أي خسائر تذكر، سوى نوعية الأقنعة وأساليب التدليس و( الاندحاس)، ورغم ذلك تفاءل العراقيون كما اليوم حتى أطلت ( الثورة البيضاء جدا ) في تموز 1968 لكي تبدأ مرحلة أخرى ( النوع الثاني ) من مراحل تطور وانتشار وتكاثر هذه الحيتان العقائدية المناضلة، التي دربت ودرست في مدارس ومختبرات ومعامل الحزب القائد آلافا مؤلفة من أجيال أكثر تطورا من الحيتان وبكل الأحجام والأشكال والأعراق والمذاهب، وأول الوجبات المطورة كانت تلك التي لبست قناع المقاولين في السنوات الأولى لحقبة الثورة البيضاء جدا، ما لبثت حتى تطورت إلى أنواع زيتونية عسكرية مع مطلع الثمانينات وقيام الحرب بين ( أحفاد القعقاع ويزدجرد )، فانتشرت قطعان من الحيتان المعسكرة بالرتب وأنصافها وأشكالها والزيتوني ودرجاته والمجحشة وأفواجها، حتى غرقت البلاد وطافت العباد وأصبحت الحيتان تصول وتجول في مشارق البلاد ومغاربها، بألوانها الزيتونية ورتبها وأوسمتها التي كانت تقدم بالمناسف والصواني، حتى بدأت (غزوة الأنفال المباركة ) فهبت جموع الجماهير المناضلة ورفاق العقيدة والصناديد من فرسان الأمة لنهب مدن وقرى كوردستان، تتقدمهم أفواج من الحيتان المدربة على امتصاص الدماء والأموال في تمرين تعبوي لمعركة كبرى قادمة لا ريب!

 

    وجاءت غزوة الكويت العظمى لتبدأ تطبيقات غزوة كوردستان ولتتحول الكويت خلال ساعات إلى ساحة لتلك القطعان من الحيتان التي ( شفطت كل شيء ) وكنست الكويت بأكملها من دولة إلى متصرفية أو محافظة، والمهم في كل هذه الغزوات ديمومتها وبقائها، فمِن (عاش الملك المفدى ) إلى ( ماكو زعيم إلا كريم ) وصولا إلى ( صدام اسمك هز أمريكا ) حتى عصرنا الذهبي مع ( مختار العصر ) وقرينه المبتسم ( بطل الأبطال وقاهر الرجال )، لا يهمها شخص من يحكم أو حزبه بقدر ما تهمها غرائزها في ( اللغف والشفط ) والامتلاك والامتصاص، وهي ذكية جدا رغم رخاوتها وبساطتها في التكيف مع تبدل الأنظمة وتغيير الأسماء والاتجاهات.

 

    وهكذا دخلت هي الأخرى حقبة ما بعد صدام بشكل مثير في ذكائها واندحاسها بين صفوف ( المناضلين جدا )، بل والمزايدة على أولئك الذين قاوموا صدام وحزبه طيلة ما يقارب من أربعة عقود، لتتبوأ مراكز الصدارة في معظم مراكز القرار وحواليه بدوائر تشبه تلك التي تنتجها قطعة الحجر في بركة ماء، مدربة ومروضة بشكل لم يعد العقلاء التمييز بينها وبين المساكين من أبناء هذا الشعب العجب، فقط إنها بدأت بالتهام الأخضر واليابس وكل ما حواليها من أراض وأبار وأنابيب بترول ومباني وطرق وحتى الأرصفة والمناصب البرلمانية والوزارية ومواقع السياسة والإدارة في الأحزاب التي استطاعوا صناعتها أو التي اخترقوا مفاصلها من الأحزاب العاملة على الساحة.

 

    ولم تكتفِ هذه الحيتان الوديعة بشهاداتها العليا ضد الكوليرا والتايفوئيد والابتدائية أو المتوسطة فاقتنت شهادات الدكتوراه والتخصص العالي من جامعة سوك مريدي الشهيرة، التي لا تلزم طلبتها بالحصول على أي شهادة قبل الدكتوراه، إضافة إلى شهاداتها الدينية وعمائمها، وهكذا أصبح لدينا أجيالا متقدمة ومتطورة من هذه الكائنات الوديعة والملساء والمتكيفة للعيش في كل المناخات والتضاريس المائية والجبلية وحتى الصحراوية إذا اقتضى الأمر لذلك، فهي أجيال متطورة جدا تليق بالبرلمان والحكومة، وقد حازت على شهادة راقية جدا من منظمة الشفافية الدولية (EITI) حيث أصبحت دولتها من أفسد دول العالم وأفشلها، وسيتم منحها شهادة حسن السلوك في مهرجان التهريــج الديــــــمقراطي ( الانتخابات العراقية ) فتدخل كالفرسان المنتصرين إلى قبة البرلمان لتضع بيضها الفاسد وتنتج حكومة جديدة جدا، غايتها خدمة العراق العظيم والحفاظ على سيادته ووحدة أراضيه ضد الانفصاليين الذين شكلوا 93% من خمسة ملايين إنسان قالوا لهم لا!؟

 

    وصلوا معي على نبينا محمد وآل محمد في دولة قراقوش!