تمهيد
أصدرت هيئة الاوراق المالية والبورصات الأمريكية US. Securities and Exchange) (Commission (SEC) موافقتها على تداول العملات المشفرة في البورصات، من قبل صناديق الاستثمار الامريكية المُتداوَلة (Exchange Traded Fund) ETFs)) بتأريخ 11/1/2024.
وكان قد تقدم 11 صندوق استثماري أمريكي مُتداوَل في البورصات الأمريكية، مثل: Black) Rock وFidelity وArk investments) بطلب إلى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية للموافقة على الاستثمار في عملة البيتكوين، باعتبارها العملة المشفرة الأكبر في الأسواق المالية، والسماح بتداولها من قِبَلِهم في البورصات الأمريكية.
آثار الموافقة
وستفتح هذه الموافقة الآفاق أمام عملة البيتكوين، وغيرها، للتداول في البورصات الأمريكية، إذ ستستخدمها هذه الصناديق الاستثمارية كأداة من أدواتها الاستثمارية فيها، وهذا يعني تَوقُّعًا لسَيرٍ مرتفعٍ في أسعار البيتكوين في المراحل القادمة، ولكن، لا يزال الوقت مبكرا لتقدير حجم هذه الزيادة في الأسعار، وذلك لعدم وضوح حجم استثمارات هذه الصناديق في البيتكوين.
وأيًّا كان تأثير هذه الموافقة، ومآلاتها السوقية، فإنني أجد الحاجة ماسّة إلى أن أشير، وبوضوح، إلى الجوانب الاقتصادية، والشرعية، لهذا النشاط الجديد في البورصات الأمريكية.
نظرة اقتصادية وشرعية على التوظيف العالمي للنقد
فمن الناحية الاقتصادية، توظيفُ النقد في الأسواق والبورصات لا يَحملُ في طياته أيةَ قيمةٍ مضافة إلى الإنتاج والتنمية، ولا يُحسِّن حالَ الوظائف، ولن يُخفِّف حالة الفقر والخلل في العدالة الاجتماعية في العالم، بل يخلو ذهنُ المضاربين في البورصات من هذه القيم والمفاهيم، سوى المضاربة على الربح وتحرّي زيادته وإربائه، ولن يؤدي ذلك إلّا إلى زيادةٍ في الكتلة النقدية، من دون أن يكون لها ما يقابلها من الإنتاج (السلع والمنافع)، وهذا هو عين التضخم وأصله. وتُزيد المخاطَرةُ، والمجازَفةُ في السعي لِجَنيِ أرباحٍ سريعة، مقرونة باحتمالياتِ خسائر سريعة، الطِّينَ بلَّةً في إثقال كاهل الاقتصاد العالمي، إذ تنصرف الأموال نحو الربح السريع على حساب الاستثمار في الإنتاج التنموي الذي يستغرق وقتا، ولا يُدِرُّ تلك العوائد المجزية المأمولة من المضاربة في البورصات، ويدفع هذا التوجه نحو هشاشةِ التنمية الاقتصادية العالمية من جهة، والتوسع السريع والمُطَّرِد للاقتصاد من خلال تَوسُّع الكتلة النقدية التي تجلب معها جملةَ الأزمات التي يعاني منها العالم اليوم، كالتضخم، والدُّيون، والبطالة، والجوع.. إلخ، من جهة أخرى.
وسوف تضيف الأداة الاستثمارية الجديدة، عملة البيتكوين، لصناديق الاستثمار الأمريكية، فرصةً إضافيةً للربح السريع، وإرباء ثروات الأغنياء، على حساب التنمية الاقتصادية، والتَّجنِّي على الاقتصاد من خلال تَوسِعَتِه وتَضخِيمه البالوني، الذي يمكن أن ينفجر في أية لحظة، خاصة وأن العوامل الجيوسياسية لها تأثير فاعل وفوري على هذه الأسواق والصناديق والعملات المشفرة.
ولكي نبني تصورا حقيقيا لما يدور في عالم الصناديق الاستثمارية والبورصات، علينا أن نلقي نظرة فاحصة على نشاط أحد هذه الصناديق، كصندوق (Black Rock Inc.) مثلًا، فهو صندوق استثماري أمريكي عملاق، بل هو أكبر صندوق استثماري في العالم، إذ تبلغ الأصول الاستثمارية الخاضعة لإدارته حوالي 10 تريليون دولار، من أصل حوالي 90 تريليون، هي أصول كافة الصناديق العالمية، ويستثمر الصندوقُ معظمَ هذه الأموال في البورصات والأوراق المالية، مع مشاركاتٍ مع بعض المؤسسات التكنولوجية، بهدف الربح السريع والوفير، بعيدا عن المشاريع الإنتاجية والتنموية.. وبغض النظر عما يقال عنه، من ارتباطاته الصهيونية، وتأثيره على توظيف النقد العالمي، وعلاقاته بالبنك الفدرالي الأمريكي، وبالأخص في جائحة كورونا، واستثماراته الضخمة في الصين، وسعيه الحثيث للتأثير على السكان، وغيرها، فإن ما أودُّ لفتَ النظر إليه هو توظيفه لهذا الكمِّ الهائل من النقد في عمليات غير تنموية، بهدف الإرباء السريع وإثقال خزائن أصحابه بالثروة والغنى، في حين كان في مقدور هذا الصندوق، وغيره، أن يستثمر، ولو جزءًا من استثماراته في تنمية الموارد، وزيادة الإنتاج، وتوفير فرص العمل، وتخفيف آفة الفقر والجوع، والمساهمة في كبح جماح التضخم وتخفيف وطأته، وتحقيق الأرباح منها في نفس الوقت.
نعم.. الصندوق حرٌّ في توظيف أمواله، ولكن ما وددتُ الإشارة إليه، هو توظيفه للنقد باتجاه توسيع الاقتصاد، وقاعدته النقدية، وحصرها في بؤر محدَّدة، ومنع الشمول المالي، وبالتالي، التسبب بخلل في العدالة الاجتماعية، وتوسيع الهوة في الفارق الطبقي وزيادة وتيرة الفقر والجوع.
هذه هي الآثار السلبية لتوظيف النقد في المضاربات على الأوراق المالية والسلع والعملات والبيتكوين في الأسواق والبورصات الأمريكية والعالمية.
أما من الناحية الشرعية، فقد أصدرتُ فتوى بخصوص التعامل مع الأسواق والبورصات، وفتوى أخرى بخصوص العملات المشفرة، يمكن الرجوع إليهما، للوقوف على تفاصيل الفتاوى وتكييفها الشرعي، واكتفي هنا بذكر نص الحكم الشرعي فيهما:
فبخصوص التعامل مع الأسواق والبورصات، ظهر لي الحكم كالآتي:
من خلال تصوّرِ التّعامُلاتِ الماليّةِ في البُورصاتِ والأسواقِ الماليّةِ والسِّلَعِيَّةِ والعُمْلاتِ، وبعدَ تَكْييفِ المسألةِ، ظهرَ لنا الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ في هذه التعامُلاتِ كالآتي:
1- لا تجوزُ كافّةُ العُقودِ العاجِلة في هذه الأسواقِ كلِّها، إذا كانتْ مُضارَبَةً، لأنّها عُقودٌ صُوريّةٌ، فاقدةٌ لأركانِ البيعِ الصّحيحِ والشّرعيِّ، وتجوزُ كافّةُ العُقودِ العاجِلَةِ إذا كانتْ عُقودَ تجارةٍ حقيقيّةٍ، تَحوزُ على أركانِ عقدِ البيعِ الصّحيحِ والشرعيِّ.
2- لا تجوزُ العقودُ العاجِلةُ للعُمْلاتِ في مَنصّاتِ الفوركس، وبُورصاتِ العُمْلاتِ، لأنّها لا تَتِمُّ في الحالِ، بل يستغرقُ الاستلامُ والتّسلمُ يومَي عملٍ، مما يُوقِعُ الْمُتَعاقِدون في رِبا النَّسيئَةِ، ناهيكَ عن كونِها عقودُ بيعٍ صُوريّةٍ، فاقدةٌ لأركانِ البيعِ الصّحيحِ والشرعيِّ.
3- إذا تحقّقَ البيعُ الفوريُّ في العُمْلاتِ، من خلال مَنصّاتِ تَبادُلِ العُمْلاتِ، بَهدفِ التّجارَةِ والتّملُّكِ الحقيقيِّ، وتمَّ تَنفيذُ العقدِ فورًا، فإنّ العقدَ جائِزٌ إجماعًا، لأنّها عقودُ صرفٍ شرعيّةٍ.
4- كافّةُ عُقودِ المشتقّاتِ، في كافّة الأسواقِ والبُورصاتِ، هي عُقودٌ مُحرَّمَةٌ، لأنّها عُقودٌ صُوريّةٌ يَنتابُها الغَرَرُ، وتَؤُولُ إلى غَبْنٍ فَاحِشٍ لأحدِ العاقِدَينِ، ناهيكَ عن كونِها، في العُمومِ، بُيوعًا لأدواتٍ استثماريةٍ غيرِ مَملوكَةٍ للمُضارِبِينَ أثناءَ العَقدِ، وأنها تختلفُ عن السَّلمِ والبيوعِ الآجِلةِ.
وبخصوص التعامل مع العملات المشفرة ظهر لي الحكم كالآتي:
نظرا لكون ما يُسمّى بالعمْلات المشفّرة، ومنها البيتكوين، سِلعًا فضائية لا تدخلُ العمليةَ الإنتاجية التنموية، ولكون عقودها عقودَ غَرَرٍ ومُخاطَرةٍ، ولكون عمليات الاتّجار بها عملياتِ مضاربةٍ تهدف الربح، ولا تقصِدُ إثراءَ العملية الإنتاجية والتنموية، فإن التعامل معها مُحرَّمٌ شرعًا، حفظًا لأموال الناس من الضياع من جهة، وحفاظًا على دور النقود في التنمية الاقتصادية من جهة أخرى.
أما إذا أنشأت الدولُ عملتَها الرقمية، بدل عملاتها الورقية، وتمَّ التداولُ بها، فإنها ستتحوّل إلى عملة قانونية، وذات قيمة، ومعدومة المخاطر، تدور من خلالها كلُّ عمليات الإنتاج والتنمية، فعندها تزول عِلَلُ التّحريم، ويَحِلُّ التعاملُ بها، لأن الأحكامَ تدورُ مدارَ العِلَلِ.
الخاتمة
يتبيّن مما سبق، أنّ الاقتصادَ العالمي، اليوم، وتوظيفَ الأموال فيه، يستهدفُ الربح والإرباء، وإثراء أصحاب الأموال وتعظيم ثرواتهم، في المقام الأول، ويتصف بِتحيُّن الفُرص، ومزيد من المكاسب، وتداول الأموال بين أصحاب رؤوس الأموال، من خلال السعي الحثيث لزيادة الكتلة النقدية على حساب التنمية والإنتاج، بشكل عام، من دون رعاية للواقع الاجتماعي لبني البشر، ولا رعاية لأحكام الشرع، وهو المتوقَّع منه، ولا حساب لمستقبل الأجيال القادمة، والأدهى، أن شركة بلاك روك، تمارس أنشطة في مجال البيئة، إذ تُعتبَر من الداعمين لها، وهي، وفي هذا العمل الإنساني المستدام أيضا، تسعى إلى استغلاله من أجل الربح والإرباء، أكثر من اهتمامه الحقيقي بحماية البيئة، وقد تعرضت الشركة لانتقادات واسعة بهذا الخصوص.
عليه، فأن الاقتصاد العالمي يعاني مما يعانيه، في المقام الأول، بسبب هذا التوظيف خارج العملية التنموية، وعدم رعايته لإنسانية الإنسان، واهماله للأحكام الشرعية التي تنظم حياة البشر، على أساس العدالة الاجتماعية، وحق الإنسان في العيش الرغيد.