بدأت تتقلص هيبة الإمبراطورية الأمريكية في العالم، وتخسر أجزاء من مساحات نفوذها، منذ مجيء الرئيس الذكي والحصيف براك أوباما والذي لم يتلاءم واستراتيجية الإمبراطوريات، ومن سوء حظ البنتاغون قبل شركاتها الرأسمالية العالمية، أنه أنتخب لدورتين، وكأن الشعب الأمريكي لم يعد يبالي بالهيبة العالمية لها، للرخاء الذي ينعم فيه، توضحت هذه النزعة مع المنافسة الرئاسية الأمريكية الأخيرة بين وريثة أوباما والرئيس الحالي دونالد ترمب، ونجاح الأخير فاقم في الوضع وباستراتيجية شبه مغايرة، رغم أن العديد من المؤشرات تبين أن قادة الإمبراطورية، يتأففون من الاستراتيجية الخارجية المستخدمة في المرحلتين، وهذا ما يؤدي إلى بروز حالات من الصدع  بين مؤسساتها، فلم تعد خافية الخلافات الجارية بين وزارتي الخارجية والبنتاغون في مواقف دولية عديدة، ناهيكم عن الخلافات المحتدمة بين الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، وفي الواقع العملي تعكس حالة من التخبط في عدم نجاح الاستراتيجية، في علاقاتها الدبلوماسية مع بعض الدول المدرجة تحت وصايتها، ولولا حفاظ إدارتها العسكرية على رصانتها كإمبراطورية، لارتجت معظم حواراتها السياسية والدبلوماسية.

  وتحركاتها في منطقة الشرق الأوسط، ومع الدول المستعمرة لكردستان، وتعاملها مع الكرد، هي نتيجة لهذه التناقضات الفاضحة ما بين مؤسساتها العسكرية والسياسية، وتبرز على أثرها بشكل جلي أخطاؤها، وما تحصده من خسائر في كردستان ومع العراق وتركيا وإيران وبالتالي مع روسيا في هذه المنطقة هي نتيجة تخليها عن إدراك أو عدمه عن استراتيجيتها كإمبراطورية، تحت حجة منطق ترجيح موازين المصالح، والمؤدية إلى التخلي عن الكرد مقابل الدول الغنية والقوية المستعمرة لكردستان، ونقصد هنا الكرد كحركة وشعب وليس حزب حاكم، أو حكومة فيدرالية أو إدارة ذاتية.

 تحاول الولايات المتحدة الأمريكية أن تعيد العلاقات مع تركيا من خلال عفرين، وبدبلوماسية هشة، لكن بعد فوات الأوان، وهو تكتيك لا يختلف كثيرا عن المستخدم مع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي، وفي الحالتين تخلت عن الكرد أملا في الحفاظ على العراق وتركيا في حضانتها، ومن الغريب أن خارجيتها أخطأت في التقدير والتوقعات، وأول مطباتها التخلي عن الكرد، والتي على أثرها صارت تتودد لدول المنطقة.

  كانت ولاتزال لها علاقات مع الحكومية العراقية، وتحاول توثيقها في الوقت الذي تدرك الرباط المتين بين حكومة العبادي وأئمة ولاية الفقيه، مع ذلك تأمل وبخطط خاطئة إحداث صدع بين الطرفيين السياسيين الشيعيين، وذلك بالتخلي عن الكرد، أو عن طريق التغاضي عن خسارة حكومة الإقليم الكردستاني لنفس المكتسبات التي حصلوا عليها بمساعدتهم، وإضعاف البيشمركة بطريقتين، الأولى، الحد من تسليحهم بالأسلحة الثقيلة، والثانية إرسال الأسلحة لهم عن طريق وزارة الدفاع العراقية والتي هي مؤسسة شيعية، أي عمليا إيرانية، مقابل تقوية الحكومة المركزية عسكريا وسياسيا، تحت حجة محاربة داعش، في الوقت الذي كان الكرد يحصدون انتصارات باهرة ومتتالية حتى قبل الدعم الأمريكي للحشد الشعبي عن طريق الجيش المركزي، فكان من نتائج هذا التكتيك خسارات غير متوقعة للخارجية الأمريكية، وأولها التمدد الإيراني، وانحسار الدور الأمريكي في المنطقة، ونتيجة لها تصاعدت الإملاءات الروسية.

  لم يتنبه استراتيجي إدارة ترمب أن القوة الكردية كانت العقبة الأكبر أمام علاقة حيدر العبادي مع إيران، وبالتالي عقبة في وجه المد الشيعي ليس فقط في العراق بل فيما ورائها أي في سوريا ولبنان أيضاً، وبعملية التخلي الصارخة عن حكومة الإقليم وإضعاف البيشمركة، أزالت جميع العقبات أمام التقارب العراقي- الإيراني، وتبينت هذه لمعظم المحللين السياسيين من خلال رد حيدر العبادي القاسي على تصريح وزير خارجيتها (ريكس تيلرسون) المقال بعد الاجتماع به في الرياض عاصمة السعودية قبل عملية الاستفتاء في كردستان، حينما طلب من الحكومة العراقية إخراج المليشيات الإيرانية، والتي على خلفيتها غير من مسيرة جولته في الشرق ليزور بغداد.

تتالت الأخطاء الأمريكية في علاقتها مع حكومتي العبادي وموقفها من البرزاني، وعلى أثرها تحصد الخسائر.

 فلقد كان بإمكان السيد ريكس تيلرسون إجبار حكومة الإقليم بالتخلي عن الاستفتاء، فيما لو أرادت ذلك فعلاً، هذا ما فعلته قبل سنوات الوزيرة السابقة، مادلين أولبرايت، عندما فرضت إملاءاتها على الطرفين الكرديين وأجبرتهم على قبول شروطها، في الوقت الذي كان المرحوم جلال الطالباني والسيد مسعود البرزاني في قمة خلافاتهم، ولا نظن أنه كان صعبا على الحكومة الأمريكية إرضاخ السيد مسعود البرزاني، بالثني عن موقفه، وإيقاف عملية الاستفتاء، لكن ومن خلال مجريات الأحداث الحالية، تتبين أن الأمريكيين كانوا يرغبون أن تستمر حكومة الإقليم في عملية الاستفتاء، وتتوسع هوة الخلاف بينها وبين حكومة العبادي، على أمل تقديم الدعم للحكومة المركزية لتقوية علاقتها مع الأخير، حالمين انتزاعه من الحضن الإيراني.

 انجرارا لمطباتها السابقة، وافقت الإدارة الأمريكية على رأي رئيس الحكومة العراقية، بإدراج الحشد الشعبي في الجيش العراقي، بعدما طالبتها وزارة الخارجية الأمريكية بحله، متناسية، أو ربما لضحالة الرؤية عند استراتيجييها المهتمين بهذه القضية، أنها بعدم اعتراضها على ضم الحشد إلى الجيش تكون قد أسقطت ذاتها والعراق والكرد والطرف السني في معضلة كبرى ستكون مآلاتها كارثية عليها وعلى المنطقة بشكل عام في المستقبل، لأنها وبشكل مباشر ساهمت في تأسيس جيش عراقي عقائدي شيعي مشابه لجيش النظام السوري العلوي وعلى مقاس ونهج حزب الله اللبناني. وفي هذه المعادلة أخطأت أمريكا مرتين، أولا بتخليها عن البيشمركة عتاداً وسياسة، لأنه بإضعافه أزالت جميع العقبات أمام الحشد الشعبي. وثانيا السماح لعملية الضم، وتكوين جيش تابع لائمة ولاية الفقيه قبل أن تكون قوة شيعية عراقية.    

  أعادت أمريكا نفس الأخطاء منذ بداية العودة إلى الملف السوري، في جنوب غربي كردستان، أهملت هيكلية التكوين السياسي للإدارة الذاتية، ولم تحثهم على إشراك الأطراف الأخرى من الحركة السياسية الكردية، حتى بعد أن فرزت المنطقة كمحمية لها، وحافظت على المكون المفروض سابقا، أي أنها لم تعير الحيز السياسي أهمية، مكتفية بالقوة العسكرية الحاضرة، كأداة لتنفيذ أجنداتها الأنية، رغم التعديلات الإسمية اللاحقة والتي لم تشمل كلية الشعب الكردي، وكانت لها من هذا التكتيك غاية، ظهرت الأن في قضية عفرين، ومنها عدم الالتزام بوعود سياسية مع الكرد لئلا تثير حساسية القوى الإقليمية من القضية الكردية، وعلى رأسها تركيا، ومن ثم سهولة التخلي عنهم عند اللحظة المناسبة، وهذا ما حصل مع الهجوم التركي الجاري على المنطقة الكردية، وحصادها هي خسارات مشابهة لما حصلت لها في العراق مع إيران.

  فبإهمالها الكرد هنا أيضاً، والتغاضي عن الاجتياح التركي، تكون قد أضعفت مقومات وجودها في المنطقة، فهي قبل الجميع تعلم أنه ليست تركيا هي من تحارب في عفرين، بل قوى تفرزها تركيا كمنظمات سورية، علما أنها وروسيا قبل الجميع يعلمون أن الذين يزجون إلى محرقة عفرين، كمحرقة إدلب والغوطة، هم من السوريين الذين دفعت بهم تركيا تحت اسم الجيش الحر إلى أتون الحرب الأهلية بذريعة تحرير الأراضي السورية، وإخراج القوة الكردية الوحيدة التي أعتمدت عليهم قوات التحالف وفي مقدمتها أمريكا، دون دعمها على قدر المسؤولية، ولا يستبعد أن يكون هذا إرضاءً للمكون العربي، علاوة على استمالة تركيا، فخروج الكرد يضعف من فرص بقاء الأمريكيين في المنطقة.

 ومن المؤسف أن المنظمات العسكرية السورية التكفيرية والمعارضة السياسية تتغاضى عن هذه الجريمة، ولا تود الاقتناع أن العملية العسكرية التركية لها وجهان، الأولى مصالحها العنصرية وهي الحد من الطموح الكردي تحت حجة محاربة الحزب الكردي أل ب ي د. والثانية هي تنفيذ لأجندات روسيا وإيران وسلطة بشار الأسد، من ضمن صفقة السماح لها باجتياح المنطقة الكردية دون اعتراض، والخطة هي للقضاء على البقية الباقية من المعارضة السورية، ولن تنقذهم تبديلهم لأسمائهم. ومن المحير كيف يتناسون الصمت التركي أمام قرار الأمم المتحدة قبل سنوات، والتي فرضتها روسيا، عند إدراج 170 منظمة سورية على قائمة الإرهاب، ودلالتها الواضحة كانت نهايتهم، بل ونهاية كل معارضة إسلامية تكفيرية ضد بشار الأسد، مع ذلك يتقبلون اليوم الأجندات التركية وسياستها المؤدية لسوقهم إلى نهايتهم المرسومة حينها.  

بقدر ما ستؤدي خروج القوة الكردية من عفرين، وقبول الأمريكيين لشروط أردوغان حول منبج إلى رأب الصدع بينها وبين تركيا، ستخلق شرخاً مماثلاً بينها وبين الكرد، والإشكالية لن تقف عند هذا الحد، بل أن تركيا ستطلب المزيد بعد عفرين والمنبج، وستصعد من تشددها تجاه أمريكا. كما وأدت عدم تبيان وزارة الخارجية الأمريكية من شفافية موقفها السياسي من الكرد، واستخدامهم بنتاغون عسكرياً كأدوات وليس كحليف، وتخلي إدارة ترمب عنهم في أحرج اللحظات، إلى تحريض تركيا على المنطقة الكردية، والتي هي في الواقع العملي جغرافيتها ومركز ثقلها في سوريا.

  ويقال في بعض الأروقة الدبلوماسية، أن عدم الإركان على استراتيجية التعامل السياسي والعسكري مع الكرد كحليف وإهمالهم كقوة عسكرية (في الجزأين الكردستانيين) أضعفتها كإمبراطورية أمام إيران ومن ثم روسيا، وكذلك موقف الناتو أمام تركيا، وعلى أثرها تحطم الجدار بين أردوغان وبوتين، العلاقة التي قد تؤدي إلى خسارة أمريكا في سوريا أمام الروس، ولربما التخلي عن جغرافية شرق الفرات، وخروجها كقوة عسكرية منها. وعلى الأغلب لن تحظَ لا الناتو ولا أمريكا بعودة إلى الماضي مع العراق دون الحضور الكردي، ولا مع دولة العدالة والتنمية المتجهة بكليتها إلى التعامل مع الإسلام السياسي الراديكالي، دون الوجود العسكري الكردي والسياسي، وعلى الأغلب الخسائر الكردية في المنطقة هي خسائر غير مباشرة لأمريكا، ولا يستبعد أن تحتضنهم روسيا عسكريا وسياسيا لمصالحها مستقبلا، بعد إخراج أمريكا من المعادلة في سوريا والعراق، ويرجح هذا الاحتمال فيما إذا استمرت إدارة ترمب في تهميشها الجاري للكرد وتكتيكها مع الدول المستعمرة لكردستان.