بدأت مهرجانات السيرك الديمقراطي العراقي في وقت مبكر قبل مطلع العام الجديد 2018، في أحداث كركوك والمناطق المتنازع عليها، وشماعة الدستور التي أصبحت اليوم واحدة من أكثر العاب التسلية السياسية في بلاد صنفتها مؤسسة الشفافية الدولية بأنها واحدة من أفشل دول العالم وأفسدها، حيث أضاعت مئات المليارات في عمليات سرقة ومشاريع وهمية، ورفعت نسبة الفقر إلى ما يزيد عن ثلث السكان، مع تخلف مريع في قطاعات التعليم والتعليم العالي والصحة والبلديات والصناعة والزراعة، وارتفاع خطير في مستويات الأمية والأمراض ووفيات الأطفال، ناهيك عن تدمير عشرات المدن ومئات القرى على خلفيات مذهبية أو عرقية، وتهجير ملايين من سكانها خارج وداخل البلاد.

    ليس العراق وحده بل كل البلدان التي عصفت بها مسرحيات الربيع العربي، حيث أنفجع العراقيون قبل غيرهم من شعوب الشرق فجأة وبدون سابق إنذار، وبعد حقب طويلة من النوم الهادئ تحت ظلال الدكتاتوريات بشتى أنواعها ومسمياتها، من الأسرة حتى المدرسة والجامع والقرية والعشيرة وصولا إلى دكتاتوريات برلمانات العشائر والفتاوى، انفجعت هذه الشعوب بالانتخابات وصناديق التدليس والنفاق والتخلف، فيما يسمى بإقامة نظام الديمقراطية الغربية بين شعوب اقل ما يقال عنها إنها متخلفة، وتعاني من فقر دم هائل ونقص كبير في تكوينها الاجتماعي والسياسي، وهو الانتماء للوطن أو الشعب، حيث يتكلس في تركيبها الثقافي والاجتماعي مكون آخر أكثر قوة ونافذية، ألا وهو الانتماء إلى العشيرة أو للدين والمذهب أو للعرق، وبتطرف غريب، وتحت سقف هذا الانتماء أدمنت النظم الشمولية عبر مئات السنين، حتى عصفت بها عاصفة ما يسمى بالربيع العربي، وخلاصتها ومن دون أي مقدمات أو تطور تاريخي تدريجي إقامة وفرض بشكل فوقي نظام غريب كليا عن سلوكها وثقافتها وتركيباتها الاجتماعية التي تحتاج إلى عقود طويلة لتغييرها، حيث بدأت الأصابع الأوربية والأمريكية بعملية جراحية خطيرة رافقتها عملية إرضاع قسري لفرض هذا النوع من الغذاء المستورد كليا من مصانعهم الفكرية والسياسية والاجتماعية، لتحيل تلك الدول وأنظمتها السياسية والاجتماعية إلى ركام تفوح منه رائحة الموت والدمار والمستقبل المجهول، وأصبحت في أفضل نماذجها ما نراه اليوم عراقيا وسوريا ويمنيا وليبيا والقادمات كثر، وكما قال الباشا نوري السعيد حينما أخبروه بأن ضباطا يجتمعون لأجل انقلاب يزيحه ومن معه، قال:

( إن فعلوا ذلك سيرفعون غطاء ( السبتتنك ) أي مخزن المياه الثقيلة، وستخرج كل عفونات البلاد ).

 

    عاصفة فوقية جعلت كل هذه الشعوب تلعن تلك الساعة التي سقطت فيها أصنامها ودكتاتورياتها التي تميزت بالظلم والطغيان، لكنها أمنت للأغلبية المستكينة أبدا في شرقنا المؤمن حتى العظم بالواحد الأحد، الأمن والسلام وستر الحال والأحوال، بينما فقدت على بوابات الديمقراطية العرجاء كل ما تبقى لديها مما تركته لهم تلك الأنظمة، حيث لم تنجح الأنظمة البديلة من تحقيق ابسط الأمور التي كانت تتمتع بها تلك الشعوب بشكل أفقي، بل على العكس كان في العراق مثلا لص واحد ودكتاتور أوحد وحزب واحد وجيش واحد، أصبح لدينا اليوم جملة من الدكتاتوريات وجيوش مقدسة بالعشرات وأحزاب تتكاثر كالقطط الشباطية، لا يعرف لها أب ولا أصل، ناهيك عن آلاف اللصوص الذين يتبعهم مئات الآلاف من الذين يستفيدون من سرقاتهم، وربما بحجهم أيضا ممن يتمنون لو أصبحوا مثلهم، وفي هذه المتوالية أتذكر جوابا لأحد البعثيين وأنا اسأله إن الشعب يرفضهم ويجاملهم من الخوف والإرهاب، ضحك وقال معلوماتكم غير دقيقة، والحقيقة إننا في الهرم بضع مئات من الآلاف، يتبعنا ضعفهم ويقلدنا أضعافهم، ويتمنى أن يكون مثلنا عدة إضعاف، وبذلك فان الأغلبية معنا!؟

 

    لم تختلف الأمور ضمن هذه المعايير، فقط أضيف لها الجانب الديني الأكثر تأثيرا، خاصة ما يتعلق بالفتاوى والصراع العقائدي مع المختلف الآخر، وعمليات التكفير والإقصاء والاحتواء وصناعة المجالات الحيوية عبر ثقافة ( الأفواج الخفيفة - الجته ) وشبيهتها اليوم بالحشود العشائرية، وإضفاء صفة التقديس على تلك الأفواج، ناهيك عما يفعلونه بالأغلبية المسطحة من الأهالي باسم الدين ورموزه وفتاويه حتى تحولت إلى قطعان لا تعرف الجهات الأربع في مهرجان تهريجي مضحك باسم الانتخابات، لتأسيس دورة جديدة لبرلمان أهم ما يميزه هو امتيازات أعضائه وقراراتهم القراقوشية، والذي لا يصدق عليه التوجه بالسؤال من أي مواطن ليبي أو عراقي أو يمني أو سوري عما كان فيه قبل مهرجانات التهريج الديمقراطي وكيف أصبح حاله الآن!

 

    ليست دعوة للدكتاتورية بل دعوة لغلق الطريق أمام من يستخدم سلالم الديمقراطية لصناعة دكتاتوريات لا تختلف عن أولئك الذين استخدموا السطو بالانقلابات!

 

    إنهم يفرضون الديمقراطية عموديا بينما تنمو وتنتعش الدكتاتورية أفقيا!