مؤلم أن يُجبر الكوردي على أن يقول "كم أنا سعيد لأنني عربي!!"، فهل سيتألّم العربي العراقي أو السوري عندما يُجبر في أن يقول "كم أنا سعيد لأنني كوردي!!"؟
هذا ما لم يجرّبه العراقيون والسوريون، بَعد، ولن يفرض الكوردي عليهم، حاضراً ومستقبلاً.
الكورد في غربي كوردستان حديثاً، وجنوبيها قديماً، تعود لفترة التسعينيات من القرن الماضي، حافظوا على حقوق الشعوب «الدينية والإثنية والقومية» غير الكوردية، التي تعيش في مناطقهم، من تعزيز مكانتهم في الجوانب السياسية والثقافية، والحفاظ على موروثهم الثقافي والديني وهويتهم القومية – الدينية، والتعامل معهم بشكل مرن ومدني، والتي قلّما تتجه نحو رفض الآخر المختلف، فيما الأنظمة العربية في سوريا والعراق، وطيلة عقود من الزمن، مارست أبشع الممارسات والاضطهادات ضد الأقليات غير العربية، وعلى رأسها الكورد، الذين عانوا من سياسة التعريب والتمييز العنصري أكثر من قرن كامل، ولا زالت آثارها شاهدة على تلك الحُقب المريرة.
إن الديمقراطية لا تخضع لمزاج الكورد أو العرب، فمعيار الديمقراطية هو الرأي العام، وبعد الآن لن يكون في متناول أحد أن يرفض العربي في كوردستان أو يقبل الكوردي في عربستان، وإنما صناديق الاقتراع. فأهالي مدينة الموصل مثلاً لن يرضوا بإياد العلاوي محافظاً لهم، ليس بدافع المنهج العنصري أو المناطقي، وإنما إذا جاء العلاوي وتنافس على منصب محافظ الموصل في الانتخابات، فإنه سوف يرفض من خلال الاقتراع أو على الأقل فإن فرصته بالفوز سوف تكون ضعيفة، ونفس الشيء إذا رشح نيجرفان بارزاني في كربلاء على نفس المنصب، فإن الأمر المؤكد أنه سوف يرفض ويخسر بمنطق الواقع الديني، وأيضاً لن يقبل أهالي مدينة كوباني أو عفرين أو عامودا أن يكون هيثم المالح أو ميشيل كيلو أو شريف شحادة في أن يستلم أيّ منهم منصباً رفيعاً في مؤسّسات المدينة.
لا مانع للكورد في أن یکون رئيسهم عربیاً أو ترکمانیاً أو سريانياً أو كاكائياً أو إيزيدياً..، المهم هو أن يكون من مواطني كوردستان ويداه غير ملطختان بالفساد والدماء، وأن یعترف بانتمائه للدولة الكوردية ويؤمن بوجودها التاريخي والحضاري، ويدافع عنها، ويخدمها، ويضع مصلحة شعبه فوق منفعته واعتباراته القومية ومصالح أجنداته، فالرئاسة ورغم إشكالياتها وطرق الوصول إليها إلا أنها تتمّ في النهاية بالانتخاب والتصويت، لكن أعتقد أن الأمر المؤكد، خاصة وبعد سقوط الأنظمة الديكتاتورية في واحة الشرق الأوسط أو تضعيف جبروتها، لم يعد ممكناً أن يحكم الشيعة سنّي، أو يحكم الكورد عربي، أو يحكم السنّة أحد الشيعة.
في مقالة، نشرتها ”إيلاف“ للكاتب العراقي خضير طاهر، الذي بدوره تساءل عن إمكانية قبول الكورد في أن يعيّنوا عربي عراقي رئيساً لهم «هل يقبل الأكراد بتعيين عراقي عربي رئيساً لإقليم كردستان؟»، وكان أن سأل عدة أسئلة أخرى، في صلب موضوعه، أذكر منها:
– هل يقبل الكورد بتعيين عربي عراقي رئيساً لإقليم كوردستان؟
– هل يقبل الكورد بتعيين عربي عراقي رئيساً لوزراء إقليم كوردستان؟
– هل يقبل الكورد بتعيين بعض الوزراء العرب العراقيين في حكومة إقليم كوردستان؟
– هل يقبل الكورد بتعيين محافظ عربي عراقي لهولير أو السليمانية؟
– هل يقبل الكورد بتعيين مدير شرطة عربي عراقي في إقليم كوردستان؟
– هل يقبل الكورد بتعيين مدير بلدية عربي عراقي في إقليم كوردستان؟
رغم كل الدمار وحروب الفوضى الخلّاقة في البنية التحتية والفوقية للعراق، أعتقد أنه لم يبقَ للعراقيين إلا الصحراء، ملجأً لأمنهم واستقرارهم، ضدّ أبناء بلدهم، والدليل البسيط من خلال بعض الأسئلة الجوهرية التي تطرح نفسها، كَرَدّ لتساؤلات الكاتب العراقي:
– هل يسمح مواطني الأنبار أو الموصل في أن يكون محافظهم مواطن شيعي؟
– هل يسمح مواطني العمارة أن يكون مدير الشرطة في المحافظة شخص سنّي من الأعظمية؟
– هل يقبل الشيعي العراقي أن يكون رئيس جمهوريته أو وزراءه إيزيدي أو تركماني أو كاكائي؟
– هل يوافق الشيعة أن يكون الشخص المسؤول عن حماية العتبات الشيعية سنّي؟
– هل يوافق سكان الأعظمية على فتح حسينية في منطقتهم؟
– لو صار البصرة إقليماً فهل يقبل مواطنوها أن يكون رئيس حكومتهم أو رئيس إقليمهم كوردياً من هولير أو السليمانية أو عربياً من الموصل أو النجف أو بغداد؟
بحسب الدستور العراقي فالرئيس ينتخب من البرلمان، ورئيس الإقليم ينتخب من الشعب، وإذا أردنا السير في طريق الديمقراطية الصحيح علينا الاحتكام دائماً إلى الدستور، الذي يشترط أن يكون رئيس العراق عراقي المولد ومن أبوين عراقيين، ولا يشترط على قومية أو دين أو طائفة محدّدة. هل اعترض الأمريكيون لأن رئيسهم باراك أوباما كان من أصول أفريقية؟ هل اعترض الفرنسيون على رئيسهم السابق نيكولا ساركوزي الذي كان مهاجراً من أصول غير هنكارية؟ هل اعترض الأرجنتينيون على كارلوس منعم بأصوله العربية السورية؟ هل اعترض الشعب البرازيلي لأن ميشال تامر اللبناني حكمهم؟ كيف يقبل سكان كاليفورنيا بحاكمهم أرنولد ألويس شوارزنيجر وهو مهاجر نمساوي ولم يولد في أمريكا؟ كيف قبل العرب بصلاح الدين الأيوبي فارساً، وحرّر القدس لهم وهو كوردي؟ في حين لم يقبل الهاشمي وأفراد كتلته بأن يكون الكوردي جلال طالباني رئيساً للعراق؟
التطورات التي شهدتها العراق عقب سقوط حكم صدام حسين بدماء وأموال أبنائه، لم تكن نهاية حكم ديكتاتوري وبداية حكم ديمقراطي جديد، لأن الفكر البعثي بقي راسخاً في فلسفة عقيدتهم وعقليتهم «كالائتلاف السوري المعارض»، سواء الجاهل منهم أو المتعلّم، فسلاح المتعلّم أنه لا يتقبّل مشاركة الآخر المختلف معه في الحكم والإدارة، وسلاح الجاهل استخدامه القوة للسيطرة على الآخرين «المالكي والعبادي جاهلان أم متعلّمان؟»، إذ تأمل الكورد كثيراً، في أن يقبلهم العراقيون كثاني أكبر قومية في العراق، ويعترفوا بحقوقهم وهويتهم القومية، ويحتويهم – معاً – نظام فيدرالي مدني جديد، كما احتوى البريطانيون الشعب الاسكتلاندي «قبِل الاسكتلانديون العيش ضمن بريطانيا، لأن الأخير يعمل باستمرار على تحسين الخدمات والمعيشة لسكان اسكتلاندا، أكثر من المناطق الأخرى»، ولكن لسوء حظّ الكورد والعراقيين أنهم واجهوا نظام ديكتاتوري آخر، أقلّ ما يقال عنه أنه نظام طائفي جاهل، دمّر العراقيين وشرّدهم «الأوضاع الراهنة تقول أنه لم يبقَ للعراقيين إلا الصحراء»، ومن هنا كانت ولادة كارثة جديدة على العراق والعراقيين.
لا بدّ للعراق أن تستفيد من تجربة إقليم كوردستان مع الأقليات المتعايشة فيه «احتواء واحتماء مكونات إقليم كوردستان تحت ظل علم ونشيد مشترك، يعتبر مشروعاً عصرياً جديداً في الشرق الأوسط»، وتتخلّص من أزلام إيران الذين يديرون بغداد بدعم وتوجيهات منها «هناك سنّة وشيعة حلفاء للكورد»، ويضغطون عليها لافتعال المعارك ضد الكورد «إيران تضغط على العراق لمحاربة إقليم كوردستان، وفي السرّ تعمل على بناء علاقات اقتصادية معه!»، عليها أن تتخلص من الطائفية وأشكالها والدول التي تؤجّجها، وتغلق المنافذ في وجه الإرهابيين ومن مختلف الدول والجنسيات، وتعمل بشكل جدّي على إنهاء مسلسل التفجيرات اليومي، وضرورة الإقرار بكوردستانية كركوك والاعتراف باستقلال كوردستان، دولة جارة وشقيقة لها، ثم تبدأ بحلّ مشاكلها الداخلية، بمحاسبة المسؤولين والقادة والساسة، ممن تلطخت أيديهم بالفساء والدماء، وفتح ملفات تجّار الحروب، وتسليم بعض المدن العراقية لتنظيم داعش، ومحاسبتهم قضائياً، وفضحهم على الإعلام، أو ستجرفها الفوضى ومستنقعات الحروب الطائفية، ولن يبقَ لها مكان سوى اللجوء للصحاري والجبال.
وختاماً فإن خلاف الكورد مع العراقيين لم يكن حول تنفيذ المادة (140) من الدستور العراقي فحسب، بل كان أيضاً حول رؤية إدارة الدولة العراقية، فالكورد حملوا الهمّ العراقي أكثر من العراقيين أنفسهم «احتضان إقليم كوردستان للآلاف من اللاجئين العراقيين مثال بسيط على حمل الهموم ومشاركتها»، ورفضوا أكثر منهم كل الخراب العقيم والحرب الطاحنة والفساد الأخلاقي والإداري والمالي في مؤسسات بلد الحضارات، ففشل العراق في احتضان الكورد كشريك حقيقي، داخل دولة واحدة، ولم يبقَ أمام الكورد إلا خيار الاستقلال، وما تشهده الجغرافية الكوردستانية ليست أزمة أو صراعاً، بل تحرّراً من استبداد الحكومات.