لا زالت تقف حيث غادرتها.. تلك الفتاة التي اعتدت رؤيتها في أحدى المطاعم الصغيرة قرب (گول هانه)، كانت أشجار اسطنبول حينها تخلع أوراقها الصفراء لتتناثر في كل مكان حتى غطت أرض الحديقة الكبرى وسط المدينة الساحرة.
اعتدت ان اجلس كل صباح منبهراً بمنظر أشجار الصفصاف العالية التي جردها الخريف من ثوبها الأخضر، منظرٌ لا يتكرر سوى مرة في العام.
كنت كل يوم اتوجه لهذا المطعم الصغير، كانت واجهته تطل على جامع آيا صوفيا، ومن هنا بدأت حكايتي مع تلك الشابة التركية التي تدير ذلك المطعم وتسترزق منه قوتها اليومي، واثناء تواجدي بعد كل جولة من جولاتي الصباحية في تلك الحديقة الزاهية المليئة بانواع الزهور والاشجار الغريبة، اتوجه لذلك المطعم الذي شدني فيه صاحبته الرقيقة، في كل مرة كنت اختار زاوية قرب شباك صغير يمر من خلاله هواء منعش يحمل معه رائحة الشتاء التي كانت تقترب مع سقوط كل ورقةٍ من اوراق اشجار الصفصاف العالية، اراقب تحركات تلك الفتاة وهي تسعى بكل رشاقةٍ ونشاط لتلبية طلبات الزبائن وتقدم لهم ما ارادوه مع ابتسامةٍ جميلة للغاية ،، انتبهت تلك الفتاة، وكانت تدعى "صون گول" اي الوردة الاخيرة، لرصدي تحركاتها ولنظراتي التي لا تفارقها اثناء تواجدي في مطعمها الصغير، ورغم اعتيادها على الزائرين الذين كانوا يرتادون المطعم من مختلف الجنسيات، الا انني شعرت انها كانت ترتبك حينما احدثها او اطلب منها ما اريد من وجبة طعام سريعة او مشروباتٍ ساخنة.
في اليوم السابع من تواجدي في اسطنبول الذي صادف يوم الجمعة، ذهبت اليها وقلت لها (گون ايدن صون گول هانم) صباح الخير سيدة صونگول، وردت (گون ايدن افندم) صباح الخير ايها السيد، وبدون مقدمات طلبت منها ان تقبل دعوتي لها بجولة في اسطنبول بعطلة نهاية الاسبوع الذي يصادف الأحد، سيما وانا ساغادر البلد فجر الاثنين عائداً الى بلدي ، تفاجأت لطلبي في البداية ، لكني بادرتها بالقول: (جڤاب ڤيرما شمدى ، صونرا كرار ڤير ، گورشرز) لاتردّي على دعوتي الآن ساعود لاحقا وابلغيني عن قراركِ حينها ، وبعد ست ساعات عدت لها وسألتها عن قرارها الاخير بشآن الدعوة ، أجابت على الفور (تمام سباه بزار كونو بكلرم سانى ) تمام سأنتظرك صباح يوم الاحد .
فرحت جداً وكانت سعادتي كبيرة، لم اكن أتوقع أنها ستوافق بهذه السهولة ، جهزت نفسي وأرتديت أجمل ثيابي وتعطرت وحضرت في الموعد المحدد ، لنلتقي صباح يوم الاحد.
كانت بمنتهى الاناقة والرقة وأجمل بكثير عما كنت اراها بمكان عملها، وقد بدت مختلفة تماماً هذه مرة .
بادرتني الحديث: انت الآن ضيفٌ في بلدي وعليه ساصطحبك لأماكن لم تزرها من قبل في اسطنبول ، قلت لها كما تشائين ، قالت ؛ اذاً فلندهب أولاً الى (غلاطا كولاسى) أي برج غلطة ، وصلنا هناك وكان مكاناً مذهلاً ، واعجبني جداً ، ثم تنزهنا في جولة بحرية على متن سفينة مرمرة العملاقة ، وتوجهنا للجزء الاسيوي وزرنا اماكن مذهلة فيها ، ثم اصطحبتني لمناطق لم أرها حتى في الاحلام وتناولنا الغداء في مكان اثري رائع .
لقد أُعجبت بشخصية تلك الفتاة التركية جداً، وأُعجبت بثقافتها وتصرفاتها وكل ماتقوم به خلال مرافقتي لها.
وقد شعرت بانها تبادلني الاعجاب ايضاً من خلال إيحاءات صامتة.
أستمرت الجولة ساعاتٍ طويلة ، حتى حل الظلام وقررنا العودة، أوصلتها الى بيتٍ صغير في حيٍ فقير كانت تسكنه مع أهلها ، وقبل ان أغادر نظرت لعينيها الجميلتين وقلت لها : ساغادر تركيا صباح يوم غد لان رحلتي الى هنا قد انتهت ،، تفاجأت وتغير لونها وتملّكها الحزن ثم تلألأت عيناها بالدموع، عانقتني وطبعت قبلة حزينة على خدي الايمن ولم تتمكن من الرد بعد ماسمعته.. تركتني ودخلت منزلها مسرعة دون أن تودعني وداعاً أخير.