" من باب القصيدة 

 إلى مدخل جهنم،  

 يتقاطر الدم مني ...

 فأنا جريح، من أزلي إلى العدم"

 أيها الحرف... احفر لي قبراً بمساحة العرش

 فأنا - رغم كل انكساراتي - أكبر من أكثر السماوات عطاءً

 وأنا بهذا الطيران أوحد من طائر القوق .

 لا تسألني من أنا ؟، فلقد محت الأنفال تاريخي

 لا تسألني من أنا ؟، فلقد سرقتني الأنفال من نفسي

 أنا موجود في الآن، ربما أكون موجوداً في الآن

 ربما أتكلم وأستمر في الآن

 وربما أبدأ من جديد في الآن ...

 ما سوى نفسي

 لا أظن أن هناك أرضاً كي أعيش فيها وأموت.

 

 ليس سهلا علينا نثر الكلمات ومنح الثناء وتوزيع التحايا وتبادل القبل لمن نشاء وكيف نشاء، وليس بمقدورنا أن نرسم القمر في السماء ليضيء ظلمة الليل ويأنس وحشة الخواطر، ولا طاقة لنا أن نخلق حبا جديدا في الأتربة، فالأرض ترفض الدخائل والسماء لا تقبل التصنع، الحزن مثل العمر كلما يكبر يهرم ويشيخ .

 

من الظلم أن ندرك أنَّ الشاعر وظيفته هي رسم إيقاع موسيقي لعمود شعري موزون ومقفى فقط، فالشاعرُ يغورُ في أعماق الروح، ينغمسُ مع الجرح يذوب في قوراع الطرق يثور مثل البركان.

 

إنه يختصر الأزمنة، ويقرب المسافات، ويبتكر المفردات، ويلملم حزن السنين ووجع النفوس ومرارة الذكريات، ليستجمعها في قصيدة عشق مضت على أحداثها أعوامٌ طوالٌ وما زال حبرها لم يجف، وأوراقها لم تذبل، وحكايتها لم تُنسَ؛ لأنَّها احتضنت كل مآتم العصور وفاقت كل جرائم التاريخ واختزلت وحشية القرون.

 

منذُ أعوامٍ وأعوامٍ والشعرُ يبكي كردستان

صرخة الأم على ابنها الملقى بين أكوام الحجر تعلو مآذن كردستان

لا شيء سوى الموت يقرع أرض كردستان

العدوُ هائجٌ كالريحِ في أرض كردستان والبراءةُ تتناثرُ في مهب الموت

لا مفرَ من الهرب فالموت مثل الرعد يجتاحُ السهولَ والكهوفَ والسراديبَ

الكلُّ يصرخُ كردستان كردستان ولا مُنقذَ لكردستان من الوحوش والغيلان إلَّا الشعر

مَنْ يمسحُ الدمعةَ من الأجفان ؟

من يحكي المراثي من يُداعبُ الأحزان ؟

من يختصر الأزمنة ؟ من يرسم الأوجاع على الجدران ؟

من يمنح الضحكة من جديد لكردستان ؟

من يوقد الشموع من يفتح النوافذ ؟

من يسترد الخريطة من يلعن السلطان ؟

غير الشعر !

من يُضمدُ جراحاتِ الجبال ؟

من يُخففُ وطء المصيبة ؟

من يُنيرُ عتمةَ الكهوف ؟

من يَكُنْ أنيسًا (لكاكا) الموجوع ؟

من يزرعُ الأملَ من يَقتُلُ اليأسَ ؟

من يحمي الأرض ؟

من يبكي النصوص ؟

 من يسترد الكرامة لكردستان ؟

غير الشعر !

 

 إذا كانتْ الشمسُ دليلها الشمس، والمروءةُ دليلها الكرم، والحبُ دليله الحب، والربيع دليله الورد، فكردستان دليلها الألم، دليلها الصبر، دليلها البقاء والكرامة، دليلها الشهادة، فالكلمةُ شرفٌ، والحقيقةُ شرفٌ، والقصيدةُ شرفٌ، والشعرُ شرفٌ، والشهادةُ شرفٌ وكوردستانُ شرف.

 

أصبحت أصابعي جداول نقلت المياه إلى أقفر صحارى روحك

لا أجد للمستقل ماعدا يدي،

لا أجد سوى حروفي للبقاء،

ماهو هذا الخيال الذي يقول لي:

( في صبيحة يوم من الأيام

من السهولة بمكان أن نقول للبدء من جديد:

ها أين كنت..؟ لقد انتهت الأنفال!

لقد كنا بانتظارك منذ زمن طويل

فنحن بأنفسنا قد بدأنا من جديد !)

 

كلا، يا شهرزاد:

كم كانت نهاية هذه الحكاية مفاجئة،

أية أنفال جئتني بها يا أكتوبر هذا القرن !

رغم أن العشق تركني في أثناء الطيران

فأنني لا أشوه هذه اللوحة التي أرسمها للمستقبل

ولن أمحو هذا الوجع في تجاربي

سأبدأ داخل نفسي بالهجرة إلى الحزن من جديد

لاشيء للموت سوى نفسي

لاشيء للبقاء سوى نفسي.

 

أي عشق هذا وأي لغة تجعل من الشاعر ريبوار يتسرب تحت الجرح ! يتدفق في أعماقه ولا يبالي، ولا يأن ولا يكبت، بل ينصهر مثل الجليد في جذوره محاولًا فتح نافذة من الأمل فتارةً يصارعُ الذكرى، والذكرى تصرعُهُ ويشدُّ به الحنينُ إلى أوجاع الماضي فيشتاق إلى تلك البراءة والوضاءة التي أمستْ بقايا تاريخ ونتفة رائحة معطرة برمضاء الشوق انسالت في سماء كردستان. وتارةً يتغالب مع الحزن فيطرحه الحزنُ مثل عصفور ذبيح هبط ليلهم حبة قمح، لكنَّهُ تفاجأ أنَّه محاطٌ بجيشٍ من المفاقيس ليصطادَهُ رصاصُ الغدرِ والموتِ.

 

وبما أنَّ كلمة الحق هي أنبل جهاد يجهاده الإنسان، فالشاعر ربيوار لم ينسج أفكاره من خيال، ولم يطرز أسطره من وهم، ولم يسرد الحكايات على سبيل المغالاة والتعصب القومي.

 

إنَّه نطق الحقيقة المؤلمة وباح بالسر الذي أرادوا أن يطمروه عن أعين الأجيال التي ستسأل ذات يوم عن الجماجم التي القوها في الأرض، فريبوار في قصيدة عشقه سجل المواقف، ورفع القيود، وحطم الحواحز. وبما أن الشاعر هو إنسان فالأنفال فاجعة الإنسانية كلها، لغة العشق وزمن الأنفال، استغاثة كل منكوب، وصرخة كل موجوع، أنها قبلة لكل مظلوم ومقهور، وشريد وطريد على بقاع الأرض كلها، إنها الإيمان والبرهان والايثار والعطاء والسخاء.

 

لغة العشق وزمن الأنفال، راية عصماء استشهدت من أجل البقاء والنقاء والكفاح والصمود والنهوض، خطت بدماء المؤنفلين الطاهرين الشهداء المشهودين لتمنح كل كردي بل كل إنسان على وجه الأرض كرامة النفوس والهام العقول وضمير القلوب.

 

لغة العشق وزمن الأنفال، إنها الحب بلا حدود، والتضحية بلا مقابل، والفداء بلا ثمن، والخواطر المتغلغلة في ثنايا الروح، والشعلة الموقدة مع كل صباح كردستاني يملئه التفاؤل، ويكتنفه الأصرار، وتقويه العزيمة، ويحيه التحدي، لقد جسد الشاعر ريبوار صورا فنية عالية في إحساسها عندما تتبحر في معانيها، تجده قد طرز المفردات باحتراف فائق الدقة، تنساب معها بولع شديد، لا يتنابك الملل ولا الكلل، فهو يعانق السطور بقسوة العذاب ولوعة الحرمان، وبشاعة الحدث الذي سكب في قلوب العزل الأبرياء، فهو يجعل من أجنحته المكسورة، بساطا لكل كردي فقد ضحيته لينام عليهما، إنها الحضن الدافىء والجرف المرهق بالانكسار، ربيوار لا يبكي الضحية بل هو الضحية:

 

مازالت أذني مصعوقة بانفجار الأنفال

أسمع صوتي حين أقول:

لأن أنقذ نملة من الفيضانات

يكفي أن تكون لي إرادة بمقدار غصن من أغصان الأشجار

يكفي أن يمتلئ دماغي بالأسرار والوقائع بمقدار كتاب واحد

لتسلمني هذه اليد إلى تلك وينقلني هذا الصدر إلى ذاك.

..............

يا أكثر الأجناس تهمشاً !

يا  فحل الأساطير والكتب !

يا من تتمرغ  داخل نفسك !

أنت لست جميلاً

لو لم تخرق سكاكين الوفاء المتثلمة جسدك من الخلف والأمام  والداخل

والجهات الأربع،

لو لم تخنقك العهود ومدة الانتظار،

لو لم يغرز خنجر أيام الأكتوبر في قلبك،

لو لم تنزل بك أنفال إلى المقابر الجماعية .

لاتستح من كونك كوردياً

لاتستسلم أمام فيلق كسر الخاطر هذا

فادخل إلى باطن حرف واجعل الحرف عشاً فتغزل بنفسك !.

 

إن كتاب لغة العشق وزمن الأنفال، لم يكن ليحظى بهذا النجاح الباهر والمدهش لولا تظافر الجهود المشتركة من قبل جوقة محترفة بذلت كل ما لديها من عطاء، واستنزفت أقصى ما تملكه من طاقة، كانوا صفا واحدا كالبنيان المرصوص بالعزيمة والتحدي وشمعة فكرية احترقت لتنير لنا هذا الكتاب الباهر والرائع، بكل ما تعنيه الكلمة، وأخص منهم بالذكر أستاذ الأدب المقارن الأخ (سالار تاوكوزي) الذي لم يكن وظيفته ترجمة الكتاب إلى العربية فحسب، بل كان ركنا مهما من أركان نجاح هذا الكتاب.

 

فالناقد تاوكوزي يرى أن الشاعر ريبوار في قصيدته يسرد لنا تراجيديا إنسانية ونفسية بلغة شعرية فائقة، وبصناعة أدبية مجشمة، استطاع من خلالها خلق صراع بين ثنائيات متكاملة ومتناقضة مثل: ( النكسة والنهوض، التشاؤم والتفاؤل، الروح والجسد، الذاتية والموضوعية) وهذا واضح وجلي من خلالها قراءة النص قراءة تفقهية وعميقة. وليس هذا فحسب بل يرى تاوكوزي أن القصيدة كانت لها انطباع ذاتي متعلق بالطبيعة والهوية والتاريخ التي تحتاج إلى الغوص المتعمق في دهاليز معانيها المتشعبة وايحاءتها الرمزية ودلالاتها المقنعة.

 

إن الآخذ لقصيدة لغة العشق أخذا دقيقا من خلال التبحر العميق والتلقي الدقيق لها سيجد أن الشاعر استلهم فلسفة النص ورموزه ودلالاته وايحاءاته من العرفان الشرقي والفلسفة الغربية وتحديدا الفلسفة الظاهراتية لدى الفيلسوف الفرنسي( ميرلوبونتي) الذي تهتم بالبحث في دور المحسوس والجسد في التجربة الإنسانية التي تعنى بالعودة إلى الأشياء ذاتها، والتي كانت ذاتية الشاعر تحت مفعولها وتأثيرها في زمن كتابته للنص الذي نستبين من خلال قراءتنا له أنه خاض سجالا واضح المعالم مع اللغة والخيال والعقل والخرافة والالهة والموت من أجل استنصار الإنسان وتحديدا الإنسان الكوردي الذي قهر في فترة من فترات الحياة الكوردستانية وهذا ما بينه الأستاذ الناقد تاوكوزي .

 

إنه يقلل من حجم النكسة ويخفف من هون الكارثة، ويقلل من صعوبة الانكسار والتشاؤم لكي لا يقتل اليأس الإنسان الكوردي أنه يسترده إلى عالم الواقعية ويدعوه للنهوض من جديد ولا يرتضي له الخضوع بل حربا استيقاضية من الأزل إلى العدم.

 

لقد أرفد تاوكوزي حيثيات جهورية وأصقل ضروريات فكرية لا بد منها وأطرى في مقدمته التي زادت من هيبة الكتاب ورونقه قيمة نقدية عالية تسهل على المتلقي السهولة في الفهم والبساطة في الإيضاح، فمن خلال الصورة النقدية التي استهلها الناقد تاوكوزي في مطلع الكتاب تجعل من القارىء يفهم النص فهما دقيقا وعميقا، فهو يرى أن قصيدة لغة العشق وزمن الأنفال، من أروع القصائد الكوردية من ناحيتي الموضوعية التي جسدها الشاعر في القصيدة، والفنية التي احكيت صياغتها بلغة شعرية فائقة من خلال الصور الفنية الباهرة والوصف العميق كما يرى الناقد والباحث والكاتب تاوكوزي أن الشاعر عالج في قصيدته فاجعة الأنفال التي تعد من أكبر الفواجع المؤلمة في تاريخ الشعب الكوردي المضطهد والذي قهر على مرور التاريخ على أيدي السلطات العراقية المتعاقبة.

 

من هو سالار تاوكوزي ؟

سالار تاوَكُوزي، ابن الخمس وثلاثين سنة ترجع أصوله إلى منطقة (تاوكوز) التابعة لقضاء حلبجة، ولد في عام (1983م) في مدينة شهروز، وتعرف عائلته بالتدين والمحافظة تنتمي إلى الطريقة الصوفية (النقشبندية).

 

وتمتد سلالته إلى العلامة المشهور السيد (حسن الجوري) الملقب بـ(ملا ابو بكر المصنف)، ومنه الى السيد (محمد الزاهد) الملقب بـ(بير خضر الشاهويي). ويذكر أن العلامة والشاعر الصوفي الكردي المعروف (عبد الرحيم المولوي) من السلالة نفسها.

الملفت في سيرة سالار تاوكوزي أن عائلته تجمع بين التدين العقلاني، وكسب العلم بكافة صنوفه، سيرة سالار تاوكوزي الذاتية ملئية بالدهشة، وملفتة للنظر، يجب أن لا نمر عليها مرور الكرام، ولا مثل برقة صاعق، فمنذ طفولته شب على حب المطالعة والمعرفة والقراءة بشتى أنواعها، وكان شديد التأثر بخاله المثقف المرحوم (فاتح حسين) الذي شدَّ على ازره، وشجعه كثيرا على القراءة والتعلم في المدارس الحكومية وفي الكتاتيب على أيدي الملالي الذين كان لهم فضل كبير في حياة سالار الأدبية والفكرية والعقائدية، ولهم الفضل الكبير في تعلّمه اللغة العربية بهذا الشكل العجيب والرهيب.

 

بعد وفاة خاله الذي أرشده لطريق التنوير العقلي، لم يقطع مواصلة العلم، بل قرر أن يحذو حذوه، وبينما هو يدرس في جامعة صلاح الدين وفي المرحلة الثالثة من كلية الآداب تعرف على المفكر الكوردي المعروف في الوسط الثقافي الكوردي الدكتور (عرفان مصطفى)، وكان مصطفى يلقي محاضرات عن الفلسفة بعد انتهاء الدوام الرسمي، فبدأ تاوكوزي يحضر له محاضراته الشيقة، فمن هنا بدأت رحلة تاكوزي في أحاديث الفلاسفة والمتكلمين والمعتزلة.

 

وخلال مسيرة حياته العلمية في الجامعة والكتاتيب، تعمق في أخبار العرب بولع شديد، بالإضافة إلى أنه ختم القرآن وحفظ منها سورا، ودرس علم التجويد وعلم النحو والصرف وعلم البلاغة والأسلوبية والعقيدة والفقه الإسلامي والمنطق وعلمي التفسير والحديث والتعبير القرآني وعلم العروض وتاريخ الأدب والنقد العربي، وحفظ من ألفية ابن مالك أكثر من 300 بيت. كما يحفظ أشعارا وقصائد عربية وكوردية وفارسية.

أما في مجاله الصحافي، فقد بدأ مشواره بنشر الأشعار وهو في الصف الرابع الاعدادي، ثم أصبح عضوا في مركزين ثقافيين، وانتقل بعد ذلك الى جامعة صلاح الدين بمدينة أربيل، بعدها عمل في (فضائية كردستان) ثم (فضائية زاكروس)، وشارك مع زملائه في الجامعة بإصدار جريدة كوردية باسم (را – الرأي).

 

وبعد التخرج، تم تعيينه في الجامعة بعنوان (مساعد الباحث)، وفضلا عن ذلك عمل في اذاعة جامعة صلاح الدين و(صحيفة هولير).

 

وبعد تأسيس حركة التغيير تأثر بأفكار مؤسسها المناضل والمفكر الراحل (نوشيروان مصطفى)، فانضم إلى صفوف الحركة، وبدا بالعمل الإعلامي فيها  منذ 2011 ولحد الآن.  وحصل سالار تاوكوزي على الماجستير في الأدب المقارن عام 2012 بجامعة صلاح الدين، وهو في طريقه لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب المعاصر خلال هذا العام.

 

قصة الأنفال  

 في مقالي هذا لا بد أن أشير وأبين لمن لا يعرف الحقيقة التاريخية المؤلمة بحق عالم الإنسان وهي ( حادثة الأنفال)، والأنفال لغة تعني (الغنائم) جمع (غنيمة)، وجاءت هذه الكلمة عبارة عن سورة كاملة في القرآن الكريم، والتي تتحدث عن أمور القتال والحروب. فعندما حدث نزاع بين المسلمين في عهد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) على غنائم الجيش المنهزم، نزلت بعض الآيات تبين وتوضح بعض المسائل المتنازع عليها وسميت السورة باسم( الأنفال) لكن السلطات العراقية في عهد نظام (صدام حسين) استغلت الكلمة في تبرير هجومها الشرس والعنيف على الشعب الكوردي البرئ فأبادتهم إبادة وحشية يرثى لها.

 

وقد قامت القوات العراقية في ذلك العهد بشن هجوم فتاك على عدد من المناطق والقرى والمدن الكوردستانية بثماني مراحل متتالية، وقد بدأت المرحلة الأولى في 22 من شباط 1988، وتم خلالها مهاجمة (وادي جافايتي، منطقة كرميان، قرداغ، دولي باليسان، خوشناوتي، بادينان)، وتم إخلاء 5000 قرية كردية خلال تلك العمليات العسكرية، فضلاً على قتل واعتقال عشرات الآلاف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال من سكانها، ودفن آلاف منهم احياء في مقابر جماعية في مناطق عراقية متفرقة، ومازال مصير الآلاف منهم مجهولاً، لكن في السنوات القليلة الماضية وتحديدا بعد سنة 2003، تم العثور على رفاة الكثيرين منهم في مقابر جماعية في جنوب العراق.


 وبحسب الإحصاءات الرسمية في إقليم كردستان العراق، فقد راحت ضيحة هذا الهجوم المتوحش والبربري قرابة 182 ألف إنسان كوردي بريء من أطفال وكبار السن ونساء وشباب عزل، لا ذنب ولا جريرة لهم، وتم اقتيادهم إلى مقابر جماعية فدفنوهم أحياء، كما تم تدمير وتشويه الطبيعة الخلابة المشهورة بها مدن كردستان وتدمير العمران برمته، وشرود وهروب آلاف من الشعب الكوردي إلى خارج كردستان هربا من الموت والظلم والطغيان من قبل السلطات الجائرة التي لم ترحم في حينها لا ضعف امرأة تستنجد ولا براءة طفل يصرخ ولا سن شيخ كبير يتوجع .

 

وامتدت حملة الأنفال من عام 1987 وانتهت إلى السادس من أيلول 1988 واستخدمت فيها أسلحة فتاكة وثقيلة ومحظورة مثل السلاح الكيماوي و دبابات ومدافع.

 

قصة حياة الشاعر وقصة القصيدة

    قصيدة (لغة العشق وزمن الأنفال) هي للشاعر الكوردي المعروف (ريبوار سيويلي) واسمه الثلاثي (ريبوار حمه أمين) كاتب وشاعر وباحث ولد سنة 1969 م في قرية (باريي الصغيرة) من منطقة (شهربازار) التابعة لمحافظة السليمانية في منطقة (شهربازار) التابعة لمحافظة السليمانية، درس الفلسفة في جامعة (الغوسكيلدة) الدانماركية.

  عاش شطراً من حياته في المهجر في( إيران والدانمارك) ثم عاد إلى موطنه كوردستان، حيث عين مدرساً بقسم اللغة الفارسية في كلية الآداب بجامعة صلاح الدين/ أربيل‌، ثم انتقل إلى قسم علم الاجتماع وبعد مضي سنوات على تدريسه بقسم الاجتماع أسس قسم الفلسفة في كلية الآداب التابعة للجامعة نفسها كما درَّس في جامعتي (السليمانية) و(رابَرين).

 

   نال لقب (الأستاذ المساعد) في جامعة صلاح الدين عام (2011). وهو من جماعة رَهَند (البعد) الذين فرضت نتاجاتهم الثقافية - ولا سيما مجلتهم التي حملت اسم جماعتهم – تأثيرات عميقة في الساحة الثقافية والسياسية والاجتماعية والفكرية في كوردستان، غير أن سيويلي أعلن انشقاقه عن الرهنديين فيما بعد، وبيّن أسباب ذلك في كتابه الصادر بالكوردية (الرهنديون للجيل الجديد).

 

نشر ريبوار سيويلي - لحد الآن-  باللغة الكوردية ما يربو (30) كتاباً تأليفاً وترجمةً في مجال الفلسفة والشعر والنقد الأدبي و الحياة اليومية، وله دراسات أكاديمية عدة عن كل من (هيراقليطس، أوغستين القديس وديكارت) وغيرهم. ولكن ذاع صيته أكثر من خلال مؤلفاته (عالم الأشياء الصغيرة، من العلاقة إلى الحب، فنطازيا الأكل، القومية و الحكاية، الكتابة والمسؤولية، بيير بورديو و علم الاجتماع الفلسفي, الخوف من الفلسفة، فلسفة ماقبل سقراط، السوفسطائيون دفاعا عن فلسفة الأقلية، الفلسفة والضحك و كتاب نالي).

 

يتميز نمط التفكير الفلسفي لسيويلي بالمزج بين التنظير الفلسفي والواقع المعاش، اضافة إلى اهتمامه البالغ بالتعبير والكتابة عن الأشياء الصغيرة من منظور فلسفي. ترجم بعض أعماله إلى العربية والفارسية والانكليزية والفرنسية. وهو يعيش حالياً في مدينة أربيل، ويعمل في (الأكاديميا الكوردية) ويدير مؤسسة (زرياب) للطباعة والنشاط الثقافي والتراثي.

 

تعد قصيدة لغة العشق وزمن الأنفال من إحدى أفخم وأهم القصائد في تاريخ الأدب الكوردي لما احتوته من أهمية موضوعية ذات طابع ذاتي، فقد اتبع الشاعر منهجية فلسفية في التعبير عن الهوية والتاريخ والوطن والطبيعة والأرض واليأس والتفاؤل والانكسار والصمود. ولغة النص واضحة مفهومة سلسلة متجانسة مترابطة، ورغم استخدام الشاعر كثيرا من الرموز والايحاءات إلا أن مقصديته من النص كانت واضحة لايشوبها الغموض .

لقد وظّف الشاعر صورا شعرية شفافة امتازت بالشرح الهادف والسهولة في الاخذ، بحيث تجعل المتلقي ينتابه التشويق لقراءة جميع النصوص ويفهم القصد ويتحمس ويثور ويتعاطف مع كل نص.

 

إن القصيدة من الناحية الفنية والبنيوية تحمل في طيّاتها فلسفة فنية متزامنة مع الواقع، انسجمت وحدة الشكل والصناعة الفنية مع الموضوعية التي امتازت بثنائيات وتناقضات واضحة من خلال السرد الشعري التي استخدمه الشاعر في نتاجه.

 

ولقد امتازت القصيدة أيضا بنوعيتها من خلال السرد الممتع والدراما العالية، كما استخدم الشاعر أسماء كثيرة وُظفت بطريقة تتناسب مع النص المشار فيه، نحو: (ترخينة) وهي أكلة كردية. (ميتي) وهو اسم فتاة ألمانية. (نيشا) وهي اسم فتاة باكستانية. (هندرين) وهو اسم لشاعر كوردي. (هيوا قادر) شاعر كوردي معروف في الوسط الكوردي. (شَمال عمر) فنان كوردي مسرحي. (جبي وشيخاني وسيبايي) اسماء رقصات كوردية. (حيران) اسم موال كوردي. و(كسكسكة) اسم لنبات ينبت قرب شاطىء الأنهار.

 

 وحاول الشاعر في القصيدة، خلق صراعات سيكولوجية متناغمة استطاع من خلالها بث روح الأمل والتفاؤل بعد النكبة التي مر بها الكورد في حقبة الأنفال. وعرف كيف يعزف على وتر سرد الحكاية الشعرية للمتلقي الكوردي، فلقد وظف الشاعر في قصيدته أسلوبا يتناغم مع سيكولوجية الإنسان الكوردي من خلال حب الكورد للطبيعة، وصمود النفس الكوردية، ونهوضها بعد الوعكة والسقوط، فأراد أن يصل إلى كل نفس كوردية قائلا عليك النهوض والاستيقاظ من جديد واجعل من الأنفال رمزا لصحوتك وعلو همتك.

 

لقد كانت ذاتية الشاعر واضحة وعالية في القصيدة، فهو من خلال عاطفته الحساسة ورومانسيته المتدفقة مع كل نص في القصيدة، يحاكي حزنه وألمه وجعه وحنينه وأشواقه وغربته وطموحه، لقد جسد الشاعر بكل احتراف شخصيته في النتاج الشعري، ولقد أجاد وأفلح في نقل الحدث من خلال ربط فلسفته الظاهراتية وربطها بالأشياء التاريخية ونسجها مع الحاضر والمستقبل الكوردي.

 

ورغم طول وكثرة النص إلا أنك عندما تقرأ القصيدة من أولها إلى نهاية آخر مقطع نصي فيها، ستجد كيف نجح الشاعر في توظيف قصيدته من خلال سردها بطريقة متتابعة، ووحدة موضوع منسجم مع بعضه. تشعر أنك لست أمام قصيدة فحسب بل أمام دراما فنية ابداعية وثورة شعرية عالية بعاطفتها ودقة حياكتها ودلالتها وايحاءتها . نعم، إنها سردية قصصية رائعة.

 

لقد امتاز الشاعر بطول نفسه الأدبي وعمق الفلسفة الفكرية التي تخللتها النصوص. وفي الخلاصة لا بد من القول أن هذا النتاج الأدبي لم يكن بهذا النجاح الباهر لولا أهمية ما قدمه الأستاذ الباحث والناقد سالار تاوكوزي من خلال ترجمته التي أجاد بها إجادة بارعة، ومقدمته النقدية التي من خلالها سهل على القارىء والآخذ الوضوح في فهم النصوص لما فيها من استخدام الشاعر لبعض الرموز والايحاءات والتقنع الذي صوره الشاعر في قصيدته كذلك الهوامش التي جاء بها تاوكوزي في نهاية الكتاب، والتي أثرت للكتاب أهمية بالغة من خلال تفسيره لبعض الأسماء المبهمة وترجمة بعض المفردات الكردية إلى العربية وكذلك التعريف بالشاعر تعريفا تفصيلا يكفي المتلقي وتغنيه عن الإبهام.

 

كما لا بد من الوقوف على دور (جمهورية تونس) الحبيبة حكومة وشعبا في جهودهم المبذولة، والتي ساهمت في نجاح هذا العمل الرائع وطبعه ونشره بين دفتي كتاب، وأخص بالذكر الشاعر التونسي الكبير (كمال حمدي) والأديبة الكبيرة (فاطمة محمود) وإلى جهود (دار المنتدى للثقافة والإعلام). وكذلك كان لمدير عام الثقافة في السليمانية (بابكر دريي) دور واضح في مساعدة تاوكوزي على طبع الكتاب.   

 

شكرا لشاعر الحنين والموجوع الأستاذ (ريبوار سيويلي) على هذا النتاج الرائع والباهر الذي يكاد أن يكون فريدا ونوعيا في تاريخ الأدب الكوردي.

 

وشكرا خالصا من أعماق النفس والروح إلى الصديق القريب والحبيب (سالار تاوكوزي) مترجم ومقدم وناقد هذا الكتاب الذي كانت جهوده الحثيثة واضافاته المهمة عاملا رئيسيا من عوامل نجاح (لغة العشق وزمن الأنفال)، وشكرا له لأنه منحني الثقة العالية لكتابة مقالي هذا.

 

وأود أن أبين أن الدافع الرئيسي لكتابتي عن هذا الكتاب هو أنني وجدت أن ضميري وإنسانيتي قد ارتميتا في أحضان شهداء الأنفال والذين أهدي هذه المقالة لكل روح شهيدة كوردية بدمها الطاهر نكتب التاريخ.

 

وأهدي كلماتي أيضا إلى شعب كردستان الحبيب الذين كانوا ولا يزالون غطاء دافئا وناعما لاخوتهم العرب.

 

شكرا إلى شعب كردستان الصابر والصامد والمكافح، الذي عرف كيف يتعلم من مآسيه وأحزانه ومواجعه أن يكون شعبا منيرا بالعقول الراجحة والمعارف المشرقة والقلوب النيرة.

 

شكرا لشعب كردستان الذي أخلص لكل مؤنفل استشهد من أجل كرامة الأرض والوحدة واللغة.

لغة العشق وزمن الأنفال، إنها الاحترافية في الصناعة والموهبة في العطاء والقدرة في الوصف والتميز في النوعية إنها الشعر والشاعرية أنها العاطفة الممتزجة في دموع الذكريات أنها سرد السنوات الحزينات المريرات . إنها الحب وليس سواه إنها الجيوب المعبئة بالهموم والمآسي أنها صور الخراب والدمار العالقة في الأذهان. إنها الكفاح والنضال والبسالة. إنها البقاء والبهاء والضياء . إنها الوعد الصادق والحديث المرهف. إنها الفيض في التحدي والعنفوان. إنها المجد الاستكبار والانتصار. إنها الشموخ والصمود والخلود، إنها كردستان إنها كردستان.

 

أنت أخذت الرقصات

وتركت الموسيقى

أخذت الأحضان

وتركت يدي .

أخذت الوجه

وتركت المرايا

أخذت الدفء

وتركت الملابس

 أخذت الماضي

وتركت رائحة العطور.

أخذت العَروسة

وتركت الفساتين.

أخذت الأذن

وتركت الأقراط

أخذت النظرة وتركت الشبابيك.

أخذت الأنامل وتركت الحلقات

أخذت الضحكات وتركت النكات

أخذت الكلمات وتركت الرسائل.

أخذت القصص وتركت الأبطال

أخذت الأسرار وتركت الحكايات.

أخذت النوايا وتركت الآمال.

أخذت روحي وتركت جسدي.

أخذت النهايات

وتركت البدايات .

أخذت المستقبل

وتركت الآن !

 

أنا لن أدخل في المستقبل..

أتوقف في أكتوبر !

   في الآن..

أتوقف في نهاية هذا العصر

ولن أدخل سنة الألفين.

سنة الألفين،

ليست أحلى من التسعينات

سنة الألفين،

ليست أرحم من الأيام التي قضيناها على ضفاف الأنهار،

ليست أحلى من جولاتنا في كوبنهاغن،

ولا من ابتساماتنا في أوكسفورد

ولا من رحلاتنا بين المدن

على دراجة صدئة..

سنسمع في سنة الألفين

خبر موت ممثل آخر جوعاً .