الحديث عن التصالح والتسامح وتسوية الخلافات في العراق لايشبه أي حديث آخر، والحديث عن العنف والإرهاب والفساد والإفساد والتفسيد هو الآخر مختلف عن الأحاديث الأخرى، وكذلك الحال بالنسبة الى العفو عن الارهابيين والتصالح معهم وعن الفاسدين ومسامحتهم.
حماية الشعب ومنع تعرضه للذبح، وتعرض الوطن للتدمير، هاجس الكثيرين، ولكنه يتوجب التوجه نحو تشريع قوانين صارمة والتخلي عن أمور حتى لو كانت متعارضة مع الدستور والقوانين السارية، وهذا الأمر مطبق ومنفذ في الكثير من دول العالم.
العراق يتعرض منذ سنوات الى هجمات إرهابية ظلامية مدعومة من جهات خارجية ومسنودة من أطراف محلية تكفيرية وبعثية صدامية. الإرهابيون نفذوا جرائمهم البشعة في كل المحافظات بمفخخاتهم وأحزمتهم الناسفة وعبواتهم المتفجرة وهاوناتهم القذرة، وإحتلوا مساحات واسعة من الأراضي وهجروا وشردوا وذبحوا وقتلوا وأسروا وإغتصبوا وهدموا وسرقوا وفجروا، وذهب مئات الآلاف من المواطنين الأبرياء بين شهيد وجريح. أما الفاسدون فقد عاثوا فيه وسرقوا ما يمكن سرقته ودمروا ما يمكن تدميره، ولم يتم القبض إلا على عدد قليل من هؤلاء الأراذل.
بعض المسؤولين غير المهتمين وغير المبالين والذين يشعرون بالراحة والسرور جراء تسهيل العمليات التي تحقق مصالحهم ومنافعهم الشخصية والحزبية، وكذلك الذين كانوا وراء تفشي الفساد وتفاقم الإرهاب ومدوهم بالسلاح والمال والدعم اللوجستي وتأمين الملاذ الآمن لهم، يدافعون عن الإرهاب ويخونون الشعب ويتساهلون مع العدو لذلك نراهم يطالبون باطلاق سراح القتلة، كمقدمة للمصالحة مع الذين غزوا وسبوا، ومع الذين إستقبلوا وساعدوا وأرشدوا الدواعش.
أما المسوغات التي يقدمها هؤلاء المتطاولين على حرمات الإنسان، ما هي إلا حجج واهية واضحة ومفضوحة تحاول التغطية على أحداث أعد لها بأشكال غير جيدة، ويراد تنفيذها بدون حياء أو إحترام للدين ودون تقدير العواقب، وخيوطها تكشف زيف إدعاءاتهم.
أما المسؤولين الذين ينجزون ولو جزءاً من مهمتهم التي كلفهم الشعب بها، ويؤدون قسماً من الأمانة التي يتحملونها، فهم إما لايريدون أن يضعوا أنفسهم في خلاف مع الداعمين للإرهاب والفساد خوفاً من النتائج، وإما إنهم إختاروا الصمت، إيماناً بمقولة (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من الذهب) وفعلاً يتوقعون الحصول على الذهب مقابل السكوت.
الجدل حول التسوية التي تسمى أحياناً بالتاريخية، ليس وليد اليوم، وليس بحاجة الى عمل بهذا الشكل التمثيلي، فالمحاولات الكثيرة السابقة التي بذلت من قبل أناس كانوا يريدون أن يؤدوا دور مانديلا العراق، وما كانت لتفشل لو لا مواقف العراقيين المختلفة جذريا بشأن المشمولين بالتسوية والتصالح والتسامح، وإختلاف مواقف المسؤولين، لأن بعضهم يريد إستغلالها لأغراض إستعراضية والظهور في وسائل الإعلام والبكاء الصارخ لتعزيز موقعه وبالتالي للتغطية على زيفه والحصول على إمتيازات أكثر، ومنهم من يتوقع أن الجمهور الذي إنتخبه هو المتضرر والخاسر الأكبر في هذه التسوية، لذلك يرفضون المشاركة في عمل موجه ضد العدالة والإنسانية، والتوقيع على وثيقة تدفع المتهمين بالإرهاب وكذلك الذين إنتهجوا القتل والذبح والتنكيل والفساد والإفساد، والقابعين خلف القضبان، نحو الحرية، وثيقة تمس حياة ومستقبل البلد وتمنح الحق للمجرمين لكي يسرحوا ويمرحوا ويعيدوا إرتكاب جرائم أخرى مشابه وربما أكثر فضاعة مما إرتكبوه، كما إنهم لايريدون تبييض صفحات الفاسدين وسراق المال العام عبر إغلاق آلاف ملفات الفساد رغماً عن أنف القضاء وتمرير الجرائم دون تطبيق العدالة، بحجة التسوية.
وختاماً نقول :
لا يمكن ان يكون العراق كجنوب افريقا ولا أحد يمكنه أن يلعب دور نلسون مانديلا، أو دور المطران ديزموند توتو رئيس اللجنة المكلفة بالاشراف على لجنة المصالحة والحقيقة، لأنه ليس هناك شخص يتصف بشجاعة ديكليرك (رئيس نظام الفصل العنصري في جنوب افريقا الذي كان أول من إعترف بالذنب وعين نائبا لمانديلا، عندما فاز مانديلا في الانتخابات وأصبح رئيساً).