في المقال الذي نشره الرئيس الأمريكي جو بايدن، باسمه مؤخراً، بصحيفة "واشنطن بوست"، هناك الكثير مما يمكن تحليله ومحاولة قراءته في ضوء الظروف والمتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة، ولاسيما أن توقيت المقال الذي استبق جولة بايدن للشرق الأوسط عكست أهدافه الخاصة بتسويق وجهة نظره للرأي العام والنخب السياسية الأمريكية بالدرجة الأولى.
لا يهمنا في قراءة هذا المقال مايدور من جدل يتمحور حول كاتب المقال إن كان الرئيس بايدن نفسه أو آخرون، فالقاعدة الحاكمة في مثل هذه الأحوال أن "المحتوى" يعبر عن قناعات صاحب المقال بغض النظر عن أي سياقات أخرى، كما لا يهمني كثيراً أن المقال لم يتضمن إعترافات صريحة بسلسلة من الإخفاقات الأمريكية في التعاطي مع قضايا منطقتنا، وبالأخص ما يتعلق بإدارة العلاقات مع المملكة العربية السعودية، الشريك الإستراتيجي التاريخي للولايات المتحدة، لأنه ببساطة لا يمكن توقع حدوث مثل هذا الاعتراف، كونه يعني اعترافاً بخطأ التقديرات والحسابات وفشل السياسات، وهذه بحد ذاتها تمثل كارثة مزدوجة في حالة الرئيس بايدن تحديداً، بالنظر إلى خبرته العميقة بالمنطقة وقضاياها وحساسياتها، فضلاً عن الجزئية الخاصة بتوابع مثل هذا الإعتراف على شعبية رئيس يعاني نزيفاً في شعبيته ويترقب إنتخابات مهمة للغاية للتجديد النصفي الكونجرس حيث يمكن أن يفقد ظهيره الحزبي، ويعاني بشكل أكثر صعوبة خلال الفترة المتبقية من ولايته الرئاسية.
لم يكن متوقعاً ولا منتظراً أن يخرج علينا الرئيس بايدن قائلاً أنه اخطأ في موقفه تجاه المملكة العربية السعودية، فالمعلوم ضمناً أن زيارة الرياض والإعتراف بمكانتها واهميتها ودورها في حسابات السياسة الخارجية الأمريكية والتراجع عن مجمل المواقف للبيت الأبيض هو بمنزلة إقرار ضمني بالخطأ ورغبة في التراجع عنه، وهذا الأمر يتكرر بشكل عام في العلاقات الدولية، ولا أحد ينتظر من الآخر اعترافاً مباشراً بالخطأ قبل تصحيح المسار. باختصار فإن التفسير المنطقي أن هذا المقال يمثل حلقة وسيطة مهمة تستهدف الهبوط التدريجي من قمة الشجرة التي صعد عليها بايدن بمواقفه غير المحسوبة تجاه الرياض، وبالتالي فإن الحلقة الوسيطة لا يمكن أن تقودك إلى المهبط بل تبقى حلقة وسيطة مهمتها أن تنزلك من قمة الشجرة إلى ما دون ذلك فقط، وبالتالي يبدو بديهياً أن يتحدث بايدن في مقاله عن أمور مثل عدم تخليه عن مواقفه السابقة، وأهدافه في نشر القيم الأمريكية وغير ذلك وجميعها أمور مفهومة في سياقات السياسة والدبلوماسية وممارساتها على أرض الواقع، وهو ما بدا واضحاً في حرص المقال على الربط بين مصالح الناخب الأمريكي المباشرة والحديث عن الطاقة والتجارة وسلاسل التوريد وزيارة سيد البيت الأبيض للرياض، وهي اللغة الأقرب لفهم الشارع الأمريكي في ظل موجة التضخم المتصاعدة.
بالتأكيد أن المقال لا يخلو من محاولات اللعب على الالفاظ، ولاسيما ما يتعلق بالاشارة إلى أن هدفه من البداية كان "إعادة توجيه العلاقات" مع المملكة العربية السعودية وليس "قطعها"، فالأمر لم يكن يتعلق بالمفهومين معاً، بل كان يتعلق بـ "عزل" المملكة، سواء كان المستهدف قطع العلاقات أو الإبقاء على الحد الأدنى منها، وهو الأقرب للتصور، ولكن مثل هذه المحاولات هي الأخرى أمور لابد منها، وأراد بادين من خلالها تبرير موقفه الجديد وتسويقه بالشكل الذي يحفظ له ماء الوجه بعيداً عن أي حرج متوقع في الإجابة على تساؤلات الصحفيين خلال الجولة، حيث وفر لها المقال الردود الجاهزة بالإحالة لمحتواه والتهرب من أي ردود أخرى قد تجلب على البيت الأبيض المزيد من الغضب والانتقادات، حيث لا يجب إغفال تأثير وجود أكثر من مائة من الصحفيين الذين رافقوا الرئيس الأمريكي خلال تلك الجولة.
حاول الرئيس بايدن في مقاله تجميل الواقع الشرق أوسطي بالحديث عن شرق أوسط مختلف وأكثر أمنا واستقراراً من الذي ورثته إدراته، وربط سعيه لإستقرار المنطقة بمكافحة الإرهاب وأمن الداخل الأمريكي وتفادي خوض حروب جديدة تؤثر في العائلات الأمريكية، وهذه جميعها سياقات انتخابية مبررة، رغم كونها لا تضاهي الواقع في جميع تفاصيله.
بالتأكيد أن مقال الرئيس بايدن كان تمهيدًا إعلاميًا استباقيا لزيارته للسعودية التي تمت ومحاولته إعادة بناء التحالف مع الرياض على أسس أكثر واقعية وهو ماحصل فعلا، وهي في مجملها أمور تحسب للقيادة السعودية وتعكس مكانة المملكة في حسابات صانع القرار الأمريكي سواء اعترف بذلك أم لا لأن الواقع يعكس بدقة توازنات القوى الجديدة وموقع المملكة فيها، ويؤكد أن طريق الولايات المتحدة لاستعادة المكانة والحفاظ على موقعها في النظام العالمي ـ سواء في عهد بايدن او غيره ـ لا بد وأن يمر عبر منطقة الخليج العربي عبر المملكة العربية السعودية تحديدا. المعضلة الأكبر والخطأ الأهم للرئيس بايدن أن خبرته العريضة في السياسة الأمريكية لم تسعفه في فهم تأثير حلفاء تاريخيين لبلاده كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وبالدرجة ذاتها لم يفطن إلى ديناميات التغيير التي تجتاح السياسة الخارجية لهذه الدول، وتأثير ذلك في مصالح الولايات المتحدة وكيف يمكن إدارة المشهد في ظل الواقع الإستراتيجية الجديد، وبداهة كان يمكن تفادي الكثير من الإخطاء والبقاء في موقع أقوى في التعامل مع الأزمات الدولية لو كان هناك إدراك مبكر وتقدير إستراتيجي دقيق لمجمل هذه الأمور.
أكثر ما يعوق سياسات الرئيس بايدن أنه يذهب كثيراً إلى تحميل الإدارة السابقة للرئيس ترامب مسؤولية التدهور الحاصل في علاقات الولايات المتحدة بشركائها الخليجيين، وهذه من الشراك الخداعية التي تخفي إنحياز الرئيس بايدن لـ"رئيسه" السابق باراك أوباما، والذي عمل معه كنائب للرئيس لمدة ثماني سنوات، والمسألة هنا لا تتعلق بالدفاع عن سياسات حزبية للديمقراطيين أو حتى سياسات شارك بايدن نفسه في صناعتها وتنفيذها، بل بالدفاع عن أوباما اقتناعاً بتوجهاته ورؤيته السياسية، التي لا يزال بايدن يتمسك بها ويحاول تنفيذها رغم كل ما تسببت به من كوارث ليس لدول المنطقة فحسب بل للولايات المتحدة أيضاً، ورغم أنه نفسه لم ينجو من عواقب هذه السياسات التي أضعفت موقفه في إدارة الأزمات الدولية الكبرى ووضعته في مواقف حرجة عديدة منذ توليه منصبه قبل عام ونصف.