لم أتذكر إنني قد تذوقت الحلوى في صغري، ولا أعرف أي صنف من أصناف المعجنات سوى قطع العجين التي تطبخها أمي في السمن لنأكلها بتلذذ، لكني كنت أراها بيد صديقي ذي الحال الموسرة، كان يحدثني كيف أن والدته تتفنن في ترتيب أصناف مختلفة منها على مائدة الطعام، في أحد الأيام جلب لي قطعتين مختلفتين مما زاد في بيتهم، دهشت بشكلهما الجميل الجذاب الذي لم ارَ مثله في حياتي، تذوقت جزءا من الأولى، كم كان طعمها لذيذ، قررت أن آخذ المتبقي منها لاخوتي الذين هم مثلي لم يعرفوا هذه الأصناف الغريبة. سوى ما تعمله والدتي من ذلك الخبز المطبوخ بالسمن، والتي كانت تحاول اسعادنا به، وبما يتيسر لها من مصروف البيت الذي كانت تحصل عليه من والدي الذي كان هو الآخر يعاني ويكد النهار بأكمله ليؤمن احتياجاتنا.
كبرتُ وكبرت معي امنياتي وطموحاتي، اكملت دراستي الجامعية، لكن بقى شعور الحرمان يلازمني طيلة مدة دراستي، فما زلت طالبا يتقاضى مصروفه من والده، قررت تقديم أوراق التعيين، حال تخرجي من الجامعة. في احدى دوائر الدولة، وكنت من المجتهدين في وظيفتي. لا أذكر إنني انقطعت عن الدوام يوما أو تأخرت في الحضور.
في أحد الأيام، حيث أقف في محطة انتظار الباص بعد انتهاء عملي، جمعتني الصدفة مع صديق الطفولة عزيز حيث التقيت به مجددا، عزيز صاحب قطعتي الحلوى، وقف بقربي بسيارته الفارهة، قال لي اركب يا سامر، تمعنت النظر في وجهه عرفته من ملامحه، انه صديق الطفولة عزيز، ذلك الطفل المدلل الطيب الذي كان لا يفارقني ابداً خلال مراحل حياتنا الدراسية، دعاني للركوب بسيارته، جلست إلى جانبه، وتعانقنا بكل حنين الماضي. سأل عن احوالي وعملي الحالي، اجبت انني بخير ومازلت اعيش بذات البيت مع اهلي وقد تعينت وحاليا اعمل موظفا حكوميا ، ابتسم عزيز وقال : صديقي اما زلت تفضل العيش في اطار محدود كما كنت في الطفولة مقتنعا بالقليل الذي لا يكاد يسد رمقك؟!
قلت : ماذا افعل ياصديقي فانا اتمنى ان اطور نفسي ولكن ما باليد حيلة.
سكت عزيز برهة ، وقال : اترغب في العمل معي بالتجارة؟ فانا اليوم تاجر كبير في السوق بعد ان تعلمتها من والدي رحمه الله الذي ترك لي ثروة طائلة
قلت : وماذا عن وظيفتي ؟!
قال: اترك الوظيفة والا سيكون حال اولادك كما كان حالك يعانون الفقر والحاجة طوال حياتهم.
اقتنعت بنصيحته وقررت ترك العمل والانخراط في عالم التجارة ، وفعلا باشرت في عملي الجديد مع عزيز، تعلمت التجارة ودهاليزها بسرعة واصبحت الشخص الاول الذي يعتمد عليه صديقي اذ كان يثق بي ثقة عمياء ليس لها حدود.
وفي يوم من الايام دعاني عزيز إلى الغداء في قصره الكبير، الذي يضم زوجته وابنه واخته الوحيدة التي كانت تصغره باربع سنوات اضافة الى امه الطاعنة بالسن ، رجعت إلى منزلي المتواضع لاجهز نفسي ، استحممتُ ولبست اجمل ما امتلكه من ثياب وتعطرت.
توجهت إلى منزل صديقي عزيز ، طرقت الباب فاذا بشقيقته هالة تفتح الباب ، حينما رأيتها بهرتني باناقتها ورشاقتها وعطرها، كل شيء فيها جميل وجذاب ، رحبت بي وادخلتني إلى غرفة الاستقبال وقامت بمناداة اخيها عزيز ثم قدمت بنفسها لي الشكولاتة وجلبت لي قدح ماء كان اعذب من الزلال لانه قدمته لي بيدها الرقيقة، تناولنا الغداء، وبعدها بساعة شكرت صديقي عزيز واهله لحسن الضيافة وخرجت مودعاً الجميع. لكن جزءا مني ظل هناك، حيث تسكن هالة الملاك الذي لم تغادر صورتها مخيلتي، وبعد تفكير طويل قررت ان افاتحها اولا، وفي حال بادلتني المشاعر ساطلب يدها من عزيز رغم التردد الذي كان يراودني ، فكيف بي ان اطلب يد شقيقته وهو يعرف ماضيي واسرتي الفقيرة ووضعي الصعب؟! كنت خائفا من رفضه لي وربما يطردني من العمل، الذي استفدت منه كثيرا ، لاسيما بعد ان اصبحت الاموال تتضاعف عندي من خلال حصولي على نسب مالية من المبيعات والتعاملات الاخرى فضلا عن الأجر الشهري الثابت.
لكن حبي لهالة كان اقوى من كل تلك الامتيازات ، في اليوم التالي قررت مفاتحتها أولا، اتصلت بهاتف منزلهم الارضي ، وعندما تحدثت معها صارحتها باعجابي بها، والقلق كان يملأني ، لكني تفاجأت بانها كانت تحمل نفس المشاعر تجاهي منذ لقائنا الأول، وكانت قبل ذلك معجبة بي ايضا من خلال حديث عزيز عني خلال جلساتهم العائلية ، حين كان يشيد بكفاحي ومسيرتي في الحياة وصدقي في التعامل معه ومع الاخرين. أخبرتني أنها تتمنى ان يكون لها شريك حياة طموح ومكافح مثلي. كلامها منحني القوة والجرأة على طلب يدها من أخيها، ، قررت مفاتحته بالموضوع ، وفعلا طلبت منه يد شقيقته هالة ، بدا متفاجئا بطلبي، وبانت ملامح الخيبة وعدم الرضا على وجهه ، نظر إلي باستهزاء، وكأنه يحاول تذكيري بماضيي دون ان يتحدث بكلمة. أحسست بالإهانة والإذلال ، خرجت من مكتبه مجروح الفؤاد وقررت عدم العودة إلى العمل معه. اتصلت بهالة التي كانت تنتظر رد شقيقها بلهفة ، شرحت لها مادار بيني وبين عزيز ، كادت تموت حزناً لما حدث ، وعلى الرغم من حدوث ذلك لكن علاقتي بهالة أصبحت أقوى، كنا لا نكاد نفارق بعضنا، نلتقي كثيرا حتى عرف القريب والبعيد بعلاقتنا ، وصل الخبر إلى عزيز، الذي ثارت ثائرته، وقرر حجز هالة بغرفتها ومنعها الخروج من البيت نهائيا. حُرمت من لقائها أو الحديث معها.
اسودت الدنيا في عيني بعد ان يأست من كل المحاولات لمعرفة اخبارها أوالاطمئنان عليها، وخلال هذه الاحداث المتعاقبة كنت قد قررت ان افتح شركة صغيرة للاستيراد والتصدير وساعدني في ذلك اصدقاء من كبار التجار الذين كنت قد بنيت علاقات طيبة معهم ، بدأ الرزق ينهال علي بشكل واسع ، توسعت شركتي ، وازدادت ارصدتي في المصارف، واشتريت لاهلي منزلاً كبيراً بدل منزلنا القديم، وسيارة حديثة، وسيارات أخرى خاصة للعمل . ورغم كل هذا كان الحزن يغمرني لفراق هالة، لم تفارق بالي لحظة، كنت دائم التفكير بحبيبتي ، وأخذت عهدا على نفسي بأن لا اتزوج غيرها، على الرغم من المعجبات الكثيرات اللواتي دخلن حياتي . مرت الشهور وأخبار هالة مقطوعة تماما ، كنت أبحث عنها المجنون، أمر كل يوم امام منزلها الذي اوصدت ابوابه بالكامل.
في احدى الايام علمت عن طريق خادمتهم التي عثرت على عنواني بعد بحث طويل، بان هالة اصيبت بمرض خطير لا علاج له، وهي طريحة الفراش منذ اشهر تصارع الموت بعد ان عجز الاطباء عن علاجها ، ابلغتني الخادمة بان هالة تريد ان تلتقي بي وتراني قبل رحيلها، صعقت بخبر مرضها وتم الاتفاق والتخطيط لدخول المنزل في وقت مناسب والذي حدد في فترة ما بعد منتصف الليل حيث الجميع يغط في النوم ، تركت الخادمة الابواب مفتوحة قليلا ليتسنى لي الدخول ، وصلت بالوقت المتفق عليه، دخلت من الباب الرئيسي ثم دخلت المطبخ حيث وجدت الخادمة بانتظاري ، اصطحبتني إلى غرفة هالة ، دخلت بلهفة واشتياق، انذهلت من منظر الفتاة التي كانت ممددة على الفراش، لم اتعرف عليها اولا، بسبب ما نال منها المرض، بدت نحيلة جدا ، لم تعد تلك المشعة الفاتنة بل انقلبت كشبح مستلقٍ على سرير ملكي ، كانت تنتظرني وعينيها شاخصة على الباب، وعندما رأتني فرحت وابتسمت ابتسامة يأس.
قالت : اخيرا رأيتك قبل ان اموت ، أمسكتُ يدها وقبلتُ جبينها ودموعي تنهال على وجهها، لفت ذراعيها حول عنقي بصعوبة، قبلتني رغم تعبها والمها . في لحظة قررت اخذها معي طلبت من الخادمة أن تجهز احتياجاتها، وجواز سفرها ، حملتها باحضاني فقد كان وزنها خفيف جدا. ادخلتها بسيارتي، حجزت لها غرفة في فندق ، ثم حجزت لها في اول رحلة عن طريق صديق يمتلك مكتباً للطيران ، وفي اليوم التالي كانت الطائرة تحملنا الى اوربا للعلاج ، في هذه الاثناء ، كانت سعيدة وهي تغفو على كتفي طيلة الرحلة ، كان قربي منها يمنح لجسدها بعض الانتعاش، وصلنا اوربا وعلى الفور توجهنا لاشهر مشفى هناك، اجريت لها الفحوصات، اكد احد الاطباء ان حالتها صعبة جدا وشبه ميؤوس منها ، لكنه في الوقت نفسه منحني بعض الأمل وهو يخبرني بأن المستشفى بانتظار بروفيسور مختص بمثل حالتها، ولحسن الحظ انه يزور مشفاهم كل عام مرة وانه سوف يصل يوم غد ، انتظرت اليوم التالي بفارغ الصبر ليصل البروفيسور بطاقمه الطبي المساعد ، حان موعد الكشف على هالة وبعد اطلاع البروفيسور على حالة هالة وتدقيقه التحاليل والأشعة الخاصة ، نظر إلى وجهي وعلامات التفاؤل قد بانت عليه ، قال : ان حالة هالة نادرة جدا ومرضها لايصاب به الا قليل من الناس وان الكثير من الاطباء يجهلون طريقة علاجها ، لاسيما بعد ان اكتشف الطب الحديث علاجا لحالتها ، قفزت فرحا والدنيا لا تكاد تسعني، ، لم أعرف بماذا ارد، قبلته بامتنان والدموع تغمر عيني. كتب علاجا لها تتناوله بأشراف فريق طبي ، وبدأ الفريق الطبي باعطاء هالة الجرعات بشكل منتظم ، بعد مرور أيام، بدأت صحتها بالتحسن، وبعد مرور شهرين تماثلت هالة للشفاء وعادت لوضعها الطبيعي .
قررنا ان نتزوج بالحال، وسط احتفال بسيط بيننا ، اتفقنا بعد ذلك على العودة الى البلد ، توجهنا لبيت هالة حال وصولنا في وقت كان فيه عزيز متواجد في المنزل ، دخلنا واذا بعزيز الذي عجز عن البحث عن اخته يتفاجأ بها وهي في اتم الصحة وانا معها ، فرح رؤيتها ولكنه كان حزينا في الوقت نفسه ، بدأتُ بالكلام وقلت : ها هي شقيقتك وقد عادت لصحتها ، عادت بعد ان كنت قد يئست من شفائها وها هو صديقك يعود لك من جديد يطلب الصفح فاتحا ذراعيه لك من جديد ، لقد تعالجت وشفيت شقيقتك الوحيدة من مرضها وقد تزوجنا ، واليوم اطلب منك أن نعود كما كنا من قبل اصدقاء واكثر ، خفض عزيز راسه بانكسار ، قال : شكرا)لأنك أنقذت حياة شقيقتي وابارك لكما زواجكما ، لكنني حزين واليأس يكاد يقتلني، فقد خسرتُ اموالي بصفقة تجارية اخذت مني كل شيء، وحاليا اعرض اخر ماتبقى لي للبيع وهو قصري الكبير هذا، لاسدد مابذمتي ولانقذ نفسي من السجن.
قلت له دون تردد : اما بشان القصر فساشتريه منك واقدمه لك مهرا لهالة ، وسوف اسدد باقي ديونك وسنعمل معا انا وانت بشركتي التي ستكون شريكي فيها ، انت صديق العمر وصاحب الفضل الاول في جمع ثروتي . دمعت عينا عزيز ووضع يده على كتفي وقال : فعلا الاصيل يبقى اصيل حتى وان تربى وعاش فقير . رزقت من هالة فتاة صغيرة اسميناها وفاء ، كبرت وفاء واكملت دراستها وتزوجت فيما بعد من ابن خالها بلال ، عشنا معا في ذلك البيت الكبير تظلنا ظلال الوفاء والمحبة.