مر النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر غيبة الإمام المهدي ـ كما بيّنا في الفصل السابق ـ بثلاث مراحل رئيسة: 

الأُولى: مرحلة النيابة الخاصة (السفراء الأربعة).

الثانية: مرحلة النيابة العامة (المحدثون والفقهاء).

الثالثة: مرحلة النيابة العامة في ظل حكم الفقيه.

وكان من لوازم تمسك المجتمع الشيعي بزعامة نائب الإمام؛ وجود قواعد تشريعية تشد القاعدة بالقمة، وكان في مقدمة هذه القواعد رجوع عامة الشيعة إلى المحدث أو الفقيه في مسائلهم الشرعية، بوصفه المتخصص في الشأن الديني والمتولّي للفتوى الشرعية. وهنا برز اصطلاح «التقليد» الذي كان له وجود سابق على عصر الاجتهاد في مذهب أهل البيت؛ إذ يعود إلى حديث الإمام الحسن العسكري: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه» (1). وكذلك من خلال الاستفادة أيضاً من الكثير من الأحاديث الأُخر؛ كقول الإمام علي: «العلماء حكّام على الناس» (2). ورواية عمر بن حنظلة، عن الإمام الصادق حول جعل الفقيه حاكماً على الناس، قال: «من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» (3).

ويتلخص المقصد العام لهذه الأحاديث في وجوب رجوع الأُمّة إلى المتخصصين في الشريعة (الفقهاء، أهل الذكر، العلماء، رواة الحديث) في أُمور دينهم أو لمعرفة رأي الدين في أُمور دنياهم، بصرف النظر عن الخلاف حول مستوى سندية هذه الأحاديث أو طرق الكشف عن مصاديقها(4).

وارتبطت قاعدة «التقليد» في الفروع بوجود الجهة التي يعود إليها الشيعة بالتقليد في عصر الغيبة؛ فكان المحدثون ثم الفقهاء هم هذه الجهة، والتي أطلق عليها ـ فيما بعد ـ مصطلح «المرجعية». وقد برز اصطلاح «المرجعية» خلال المئة عام الأخيرة؛ إذ لم يكن الفقهاء السلف كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي والعلامة الحلّي وانتهاءً بالشيخ الأنصاري، لم يكونوا يحملون هذا العنوان؛ بل يحملون توصيفات «زعيم الشيعة» و«شيخ الطائفة» و«الشيخ الأعظم». وقد تمت صياغة مصطلح «المرجع الديني» ثم مصطلح «المرجع الأعلى» في فترة متأخرة؛ لضرورات تدبيرية تنظيمية، بالاستفادة من جذر لغوي للاصطلاح، يعود إلى فعل الأمر «ارجعوا» في الحديث المنسوب إلى الإمام المهدي: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم» (5)، ويعني الرجوع إلى المتخصص، أي راوي الحديث والعارف بمقاصده، في كل الحوادث والوقائع التي تحتاج إلى معرفة رأي الشريعة فيها.

وهكذا برز وجود مرجعية الفقهاء، مجسداً للزعامة الشيعية، ثم لحركة الاجتهاد والتقليد، وبات موقع الفقيه المرجع يمثّل الولاية العلمية والزعامة الدينية الاجتماعية في عصر غيبة الإمام المهدي، والامتداد الشرعي لخطي النبوة والإمامة، وله الحجية في الفتوى والقضاء والحسبة وتداول المال الشرعي والحكم (6). وهذه الأُمور والمفاهيم ليست معقدة ولا غيبية؛ بل لها تاريخ مدوّن واضح، سواء في الكتب الحديثية والرجالية أو في المدونات التاريخية.

و«التقليد» في فروع الدين (الأحكام الشرعية الفرعية)؛ ضرورة عقلية، قبل أن تكون مشروعة نقلياً وروائياً. وبعيداً عن الآراء الرافضة؛ سواء التخصصية التي كانت تطرحها المدرسة الأخبارية دون أن تطبقها، أو الآراء غير المتخصصة؛ فإنّ التقليد يعني الرجوع إلى رأي المتخصص في أحكام الشريعة حصراً، وليس في جانب العقيدة، كرجوع الناس إلى الطبيب أو المهندس أو الفيزياوي کلّ في مجال اختصاصه، وهي سيرة العقلاء في كل زمان ومكان. وكما أن للطبيب ولاية على الفتوى الطبية فإنّ للفقيه ولاية على الفتوى الشرعية. وبالتالي؛ فإنّ دليل التقليد عقلي تدبيري. أما الجانب الديني العام المتعلق بالتقليد؛ كمسؤولية الفقيه تجاه الأُمور الحسبية والقضاء بين الناس؛ فيرتبط بالموقع الذي وضعته به أحاديث أئمة آل البيت. أما المسؤولية تجاه المال الشرعي فهي مسؤولية تنظيمية جعلية.

وقد ظلت بعض الاتجاهات العلمية الشيعية ترفض قاعدة التقليد؛ لأنّها ترفض أساساً مبدأ الاجتهاد في الشريعة، ومنها المدرسة الأخبارية (7)، مقابل المدرسة الأُصولية (نسبة إلى أُصول الفقه الذي ترفضه المدرسة الأخبارية). وقد سادت المدرسة الأُصولية في جميع الحوزات العلمية، منذ أكثر من ثلاثة قرون، أي بعد ظهور الحراك الأُصولي الكاسح الذي قاده المرجع الديني الشيخ محمدباقر الوحيد البهبهاني (ت1206ه/1791م)، حتى يمكن القول إنّ آراء المدرسة الأخبارية أخذت تتلاشى بمرور الزمن؛ بفعل متطلبات الزمان والحاجة الماسة إلى معرفة رأي الشريعة في الوقائع المستحدثة الكثيرة التي ليس فيها نص، ولا يمكن أن يتم هذا الأمر دون العملية الاجتهادية. وهو الاجتهاد فيما لا نص فيه، وليس الاجتهاد مقابل النص، وهو ما نهى عنه أئمة آل البيت. وكذا الحاجة إلى علم أُصول الفقه لتقعيد عملية استنباط الحكم الشرعي. وربما بات الحديث عن مباني المدرسة الأخبارية من الماضي، ولم يعد لها تأثير في الواقع الشيعي. فضلاً عن أنّ الجدل التاريخي بين الأخبارية والأُصولية، قد عفا عليه الزمن.

ولو كان الشيخان الكليني والصدوق، وكذا الشيخان المجلسي والأسترابادي لو كانوا أحياءً؛ لكانوا قادة للمدرسة الأُصولية، وعلى رأس رموز الاجتهاد (8). صحيح أنّ الفكر الأخباري عاد بثوب جديد وأسماء جديدة؛ لكنه يختلف في المباني وفي قبوله علم الأُصول، رغم وحدة المخرجات بين (السلفية) الشيعية الجديدة والمدرسة الأخبارية القديمة.

ونفي الاجتهاد الذي يتحدث عنه الأخباريون، مستندين إلى أحاديث مروية عن أئمة آل البيت؛ إنّما هو الاجتهاد المنهي عنه، وهو الاجتهاد في مقابل النص، والاجتهاد بالرأي والاستحسان والقياس. أمّا الاجتهاد في الموضوعات التي لا نص فيها، فهو بمعنى الاستنباط من الأدلة الشرعية في المستحدثات والوقائع الجديدة التي ليس فيها نص.

وبمراجعة المدونات الفقهية والأُصولية، سنجد استدلالات كثيرة على «حجية فتوى الفقيه» (9)، لا سيما عن الأئمة الباقر والصادق والرضا، والتي تصرح بدعوة الشيعة في مناطقهم إلى الأخذ بفتاوى المحدثين الفقهاء، أمثال: أبان بن تغلب، وأبو بصير الأسدي، وزرارة بن أعين، وزكريا المؤمن (10)، وكذا ما روي عن الإمام العسكري حول تقليد العوام، والحديث المنسوب إلى الإمام المهدي في الرجوع إلى رواة الحديث، وهم العارفين بمقاصد الأحاديث والروايات ودلالاتها؛ أي الفقهاء، وليس ناقلي الحديث. وتعبِّر فتوى المجتهد عن حكم ظاهري، يكون قطعي الثبوت ظني الدلالة أحياناً، أو ظني الثبوت قطعي الدلالة أو ظني الثبوت ظني الدلالة في أحايين أُخر؛ لكنه خطاب مقارب للحكم الواقعي ومبرئ لذمة المكلف، على أساس مناط خبروية المجتهد (11).

والمفارقة أنّ الآراء التخصصية التي ترفض الاجتهاد والتقليد، ولكنها تطبق منظومة الاجتهاد والتقليد عملياً وحرفياً، وإن رفضتها نظرياً؛ بل حوّلت منظومتها المرجعية إلى نظام مؤسسي أبوي رعوي محكم وقوي، فتوائياً وإدارياً ومالياً؛ بما يفوق منظومة المدرسة الأُصولية الاجتهادية التي باتت تمثل الخط العام للمرجعية الدينية منذ عهد المرجع الأعلى الشيخ محمدباقر الوحيد البهبهاني (ت 1206ه/ 1791م). وهم يشبهون في سلوكهم بعض الذين يطرحون أنفسهم مراجع مجددين وينظِّرون بكل حماس لرفض التبعية الشرعية للفقيه أو المرجع الأعلى، والتشكيك بشرعية بعض الأموال الشرعية (كالخمس مثلاً) ورفض تنظيمها من قبل المرجع؛ لكنهم يمارسون عملياً كل سياقات العمل المرجعي التقليدي، ويستلمون الخمس والأموال الشرعية من مقلديهم ويصرفونها في مواردها المذكورة في باب الخمس.

وهكذا، فإنّ نفي التقليد ليس موضوعاً جديداً (12)، لكن جميع معطيات الدليلين الشرعي والعقلي تؤيد التقليد، ولم تعد هناك قيمة واقعية لأيّ نفي، فالمدرسة الأخبارية بعظمتها ونفوذها ومراجعها الكبار وانتشارها الواسع ومؤلفاتها العميقة، لم تستطع زعزعة أركان التقليد والاجتهاد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات الفصل الثالث

(1) كما جاء في: «تفسير الإمام العسكري»، ص120. الطبرسي، «الاحتجاج»، ج2، ص263. الحر العاملي، «وسائل الشيعة»، ج27، ص131.

(2) الآمدي، عبدالواحد، «غرر الحكم ودرر الكلم»، ص507.

(3) الكليني، «الكافي»، ج7، ص412، ح5.

(4) الخلاف بين الفقهاء في هذا المجال هو خلاف علمي محض، أي أنّه يتعلق بالمعايير العلمية في قبول سند الحديث (سلسلة رواته) أو رفضه، أو دلالة الحديث على القضية والموضوع.

(5) الصدوق، «كمال الدين وتمام النعمة»، ص484. الحر العاملي، «وسائل الشيعة»، ج27، ص140.

(6) علي المؤمن، «الإسلام والتجديد»، ص87.

(7) الأخبارية: إحدى المدارس العلمية في المذهب الشيعي الاثنی عشري، وقد ظهرت أوائل القرن الحادي عشر الهجري على يد الميرزا محمدأمين الاسترابادي. وظل الصراع محتدماً بين الأخباريين والأُصوليين خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وبشكل خاصفي مدينة كربلاء في العراق، حيث كان للأخباريين وجود ملحوظ. وأبرز المسائل التي يختلف فيها الأخباريون عن الأُصوليين: 

1ـ يرى أصحاب المدرسة الأخبارية بأنّ كل ما ورد في كتب الحديث الأربعة عند الشيعة («الكافي» للشيخ الكليني، «من لا يحضره الفقيه» للشيخ الصدوق، «تهذيب الأحكام» و«الاستبصار» للشيخ الطوسي) صحيح قطعي الصدور عن الأئمة، ويقولون ما دام أصحاب الأئمة نقلوا هذه الروايات من الأئمة، فأنّها لا تحتاج إلى النظر والبحث والتحقيق والتفتيش، لا عن السند ولا عن المتن، فلا يحتاج الفقيه إلى البحث عن أسناد الروايات الواردة في الكتب الأربعة، ويصح له التمسك بما ورد فيها.

أمّا الأُصوليون فلهم رأي آخر في ما ورد في الكتب الأربعة، ويقسمون الحديث إلى أربعة أقسام: صحيح وحسن وموثوق وضعيف، ولا يأخذون بالحديث الضعيف.

2ـ يرى الأخباريون عدم جريان البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية. بينما يعتقد الأُصوليون بصحة البراءة في الشبهات الحكمية الوجوبية والتحريمية بالعقل والأدلة النقلية.

3ـ ينفي الأخباريون حجية حكم العقل والملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي، بينما يعتقد الأُصوليون بحجية حكم العقل والملازمة مع الحكم الشرعي.

4ـ ينفي الأخباريون حجية الإجماع، في حين يعتقد الأُصوليين بالإجماع إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم.

أُنظر للمزيد: مركز الأبحاث العقائدية

http: //www. aqaed. com/faq/5941

http: //www. aqaed. com/faq/1577

وانظر أيضاً: محمد عبدالحسن محسن الغراوي، «مصادر الاستنباط بين الأُصوليين والأخباريين». شيرين هادي دلّي الموسوي، «الخلاف بين الأخباريين والأُصوليين: العلامة السيد الميرزا محمد الأخباري أُنموذجاً».

(8) ينقل عن مرجع الشيعة الأعلى الشيخ مرتضى الأنصاري قوله بعد صدور كتابه «فرائد الأُصول» في علم أُصول الفقه: «(إذا كان الأمين الأسترابادي حياً لحد الساعة كان يؤمن بهذه الأُصول».

أُنظر: السيد حسين مدرسي الطباطبائي، «مقدمة في الفقه الشيعي»، ترجمة: محمد آصف فكرت، ص61.

وقد عاد الفكر الأخباري اليوم على يد بعض التيارات الحوزوية الموصوفة بالسلفية، وهي تيارات أُصولية، لكن مخرجات فكرها وسلوكها أخباري.

(9) وهي موجودة غالباً في أبواب الاجتهاد والتقليد، ومن أبرز أدلة حجية فتوى الفقيه: آيتا التفقه في الدين وسؤال أهل الذكر في القرآن الكريم، وأحاديث الرسول والأئمة حول منزلة العلماء وأقوالهم وفتاويهم والرجوع اليهم، وكذلك المبنى العقلائي برجوع الجاهل إلى العالم وغيرها.

أُنظر كنموذج: السيد محسن الحكيم، «شرح العروة الوثقى»، ج1، وكذا التعليقات على الشرح وعلى أصل الكتاب من كثير من الفقهاء.

(10) ومن ذلك قول الإمام الباقر لتلميذه الشيخ أبان بن تغلب: «إجلس في مسجد المدينة، وأفتِ الناس، فإنّي أُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك». كما روي أنّ الفيض بن المختار دخل على الإمام الصادق، فسأله عن الاختلاف في الحديث، فأجابه الإمام: «إذا أردتَ حديثناً فعليك بهذا الجالس»، وأشار إلى تلميذه الشيخ زرارة بن أعين.

أُنظر: جعفر السبحاني، «طبقات الفقهاء»، ج2

(11) أُنظر: السيد كاظم الحائري، «مباحث الأُصول»، ق 2 ج1، ص170 – 176.

(12) نفي التقليد هو مبنى المدرسة الأخبارية. راجع مؤلفات أبرز رواد المدرسة، وأهمها: «الفوائد المدنية» للشيخ أمين الأسترابادي وتلميذه، و«مصادر الأنوار في تحقيق الاجتهاد والأخبار» أو «قبسة العجول ومنية الفحول في الأخبار والأُصول» أو«سبيكة اللجين في الفرق بين الفريقين» للسيد الميرزا محمد الأخباري (السيد جمال الدين النيشابوري).