في مشهد أدبي متعدد المشارب والاتجاهات، وتاريخ ثقافي مفعم بالتحديات والانبعاثات، يبرز اسم جلال زنكابادي كواحد من أبرز المثقفين الكورد الذين أغنوا الحياة الفكرية في العراق وكردستان، بل وفي العالم العربي، بإنتاجهم الأدبي، وترجماتهم الموسوعية، وروحهم الإنسانية المتقدة.
وُلد جلال حسين محمد، المعروف أدبيًا بـ"جلال زنكابادي"، في 1 كانون الأول 1951 بمدينة كركوك، التي تُعرف بتعدّد ثقافاتها ولغاتها، وكانت منذ مطلع القرن العشرين بوتقة انصهرت فيها التيارات الأدبية، والألسنة، والهويات. هذا النشوء في فضاء متنوع لغويا وثقافيا لعب دورا كبيرا في تشكيل شخصية زنكابادي الفكرية، إذ أتقن عدة لغات من بينها الكوردية (بلهجاتها)، العربية، الفارسية، الإنجليزية، الإسبانية، التركية، وحتى الأردو.
بدأ جلال زنكابادي حياته بعد تخرّجه من دار المعلمين في كركوك عام 1969، وعمل لفترة وجيزة في وظائف بسيطة، كعامل بناء وبائع كتب. غير أن مسيرته الأدبية لم تتوقف، بل كانت هذه التجارب مصدرا للإلهام والنضج المبكر. لاحقا، التحق بسلك التعليم، وعلّم لأكثر من عقدين من الزمن، موازنا بين مهنته التربوية وشغفه بالكتابة والترجمة.
لقد مثّل زنكابادي، من خلال أعماله، مثالا للمثقف العضوي، الذي لم ينفصل عن مجتمعه، بل تماهى مع آلامه وطموحاته، وسعى لتأسيس خطاب ثقافي كوردي معاصر، يستند إلى الجذر ويطل على آفاق العالم.
أحد أبرز إسهامات جلال زنكابادي كانت في مجال الترجمة، حيث قدّم للقارئ الكوردي والعربي على حد سواء عيون الأدب العالمي، وقدّم الأدب الكوردي بلغات أخرى، محاولا كسر العزلة الثقافية التي كانت مفروضة على الكورد لسنوات طويلة.
من أبرز ترجماته:
ديوان عمر الخيام (من الفارسية إلى العربية)
قصائد مختارة لسركون بولص (من العربية إلى الكوردية)
سنة في الجحيم، مذكرات مهاباد قرداغي (من الكوردية إلى العربية)
مختارات من الأدب الإسباني وأمريكا اللاتينية والأردي والفارسي
وامتازت ترجماته بالدقة والاحتفاء بالجماليات، وكان يرى في الترجمة فعلا ثقافيا حضاريا، لا مجرد عملية لغوية.

لم يكن جلال زنكابادي مترجما فقط، بل كان شاعرا مبدعا كتب بالكوردية والعربية.. وتميل نصوصه إلى الحداثة والتجريب، مع مسحة من التأمل الفلسفي والسخرية.. من أبرز دواوينه:
ملحمة مضادة
ها هي معجزتي
قصائد تأبى أي عنوان
في شعره، يتجلى توتر دائم بين الحلم والواقع، وبين الهوية والشتات، في لغة مكثفة، وأسلوب يميل إلى الاقتصاد البلاغي والعمق الدلالي.
برز زنكابادي أيضا كباحث موسوعي، وكان من أبرز مشاريعه الفكرية الموسوعة الثقافية الكوردية "كوردلوجيا"، التي سعى فيها لتوثيق التراث الثقافي الكوردي من منظور شمولي، يتناول الأدب، والفنون، والمجتمع، واللغة، والتاريخ.
كما كتب دراسات حول: الثقافة الكوردية المعاصرة، والمسرح الكوردي، والأدب العالمي وتحليل التراث الإسلامي من منظور نقدي..
كان يؤمن بأن الثقافة الكوردية تملك كنوزا تحتاج إلى من يكتشفها ويقرأها بعيون جديدة، لا أن يُعاد تدويرها في قوالب مكرورة.
ورغم عطاءاته الاستثنائية، عاش زنكابادي حياته في الظل، بعيدا عن الأضواء والمؤسسات الرسمية. لم يُكرّم في حياته كما يستحق، ولم يُسلّط الضوء على أعماله بما يتناسب مع قيمتها.
قال ذات مرة: "الأديب يُقاس بما ينجزه، لا بما يُقال عنه. والمشهد الثقافي اليوم يُعلي الأصوات لا النصوص."
لقد اختار العزلة طواعيةً، وظل مخلصًا للكلمة، ولرسالته الأدبية والثقافية.
وداعا جلال...
في 5 أيلول 2023، رحل جلال زنكابادي بهدوء، بعد صراع مع المرض، تاركا وراءه مكتبة كاملة من الشعر، والترجمة، والدراسات، والمخطوطات التي لم تُنشر بعد. نعاه الوسط الثقافي الكوردي والعراقي، وتقدّمت رئاسة إقليم كوردستان بالتعزية في وفاته، معتبرة إياه "خسارة فادحة للثقافة الكوردية".
وخلّف زنكابادي أكثر من 30 كتابا منشورا، وعشرات المخطوطات غير المنشورة، والتي تُعد كنوزا فكرية تنتظر من يعتني بها. لا تزال المكتبة الكوردية بحاجة لمن يُكمل مشاريعه، ويُعيد طباعة أعماله، ويُدرّس نتاجه للأجيال القادمة.
"جلال زنكابادي لم يكن مجرد كاتب... بل روحا ثقافية تنقلت بين اللغات والوجع والحب.
هو ذاكرة أمة... وجزء أصيل من ضميرها."