عندما تتابع الحوارات السياسية العراقية في مجاميع التواصل الاجتماعي، أو عبر شاشات التلفاز، أو في الصالونات الحوارية، أو حتى في جلسات مراكز الفكر حول القضايا التي تواجه العراق - سواء كانت تحديات آنية أو بنيوية - لا يسعك إلا أن تخرج بانطباع واحد: هناك شُحٌّ واضح في إنتاج الفكر السياسي.

فضاءات الحرية التي انفتحت في العراق بعد عام 2003 لم تُنتج بعد جيلاً، ولا حتى عدداً مقبولاً، من المفكرين السياسيين القادرين على رسم مسارات حلول واقعية للمجتمع، أو تقديم رؤى استشرافية لمسار الدولة ومستقبلها.

السؤال الذي يفرض نفسه: أين يكمن الخلل؟

وقبل ذلك، هل هذا التشخيص دقيق فعلاً؟

وإن كان كذلك، فما الطريق إلى الإصلاح؟

الخلل، في جوهره، مرتبط بضعف إدراكنا - نحن النخبة او رجالات الدولة أو المنتمين إلى الكيانات الحزبية - لأهمية الفكر السياسي ودوره البنيوي في بناء الدولة الحديثة.

فما زال كثيرون لا يرون في الفكر ضرورة، ولا يعتقدون بوجوب خلق أجواء وفضاءات تساعد على إنتاجه، رغم أنها من أهم عناصر المادة الخام التي تُبنى عليها السياسة الرصينة. إذ من رحم الفكر تُولَد الأحزاب، وتبدأ صيرورة الحراك السياسي، ومن ثم البناء السياسي القويم لنظامها الذي يستطيع مواجهة التحديات المختلفة التي يمر بها العراق.

أما عن مدى دقة التشخيص أعلاه، فاحتمالية صوابه - مع الأسف - عالية جداً.

فنحن لا نرى على الساحة السياسية العراقية أطروحات انتخابية مبنية على فكر، ولا انتماءات حزبية قائمة على برامج واضحة، ولا مؤتمرات حزبية تناقش أوراقاً فكرية أو رؤى سياسية عميقة.

لقد تحوّل موسم الانتخابات، مع الأسف، إلى مجرد حدثٍ إجرائي جاف لا روح فيه، لا إلى كرنفال سياسي تنتج عنه أفكار جديدة وروح سياسية رصينة، ولا إلى مساحةٍ حواريةٍ لتطوير الخطاب السياسي وتجويد الممارسة المطلوبة لديموقراطيتنا الوليدة.

أما الحل، فيبدأ من مراجعة الذات - لإحياء جسد وروح السياسة في العراق.

فلا يمكن أن تزدهر السياسة في فراغ فكري، ولا أن تُبنى الدولة بعقولٍ لا تؤمن بأهمية الفكر النقدي والحوار المؤسسي.

هنا ينبغي علينا إعادة إحياء الحياة الحزبية بمعناها الحقيقي، داخلياً وفيما بينها، وخلق فضاءات تشجع على التفكير داخل الصندوق وخارجه، لا التلقين، وعلى الحوار لا التنازع، وعلى بناء الرؤية لا مجرد إدارة اللحظة وصفقاتها وحلب صوت الناخب. فالفكر السياسي لا يُنتَج في المكاتب المغلقة، بل في تفاعل المجتمع مع واقعه، وفي مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة وغيرها من كيانات التي تخرج من رحم المنظومة الديموقراطية.

بدون مفكرين سياسيين، تبقى الديمقراطية في العراق شكلاً بلا مضمون، وتتحول الدولة إلى جسدٍ بلا عقل ولا ضمير يُوجّه، ومؤسساتٍ بلا فكر، ويبقى السياسي أسير اللحظة، وكياناته السياسية بلا بوصلة.

ما لم نُدرك أن بناء الفكر مقدمة لبناء الدولة، فسنظل نُعيد إنتاج الأزمة نفسها بأسماءٍ وأجيالٍ مختلفة. فالأمم لا تُبنى بالولاءات العابرة، بل بالأفكار التي تصنع الوعي وتُهذّب السلطة وتمنح السياسة معناها الإنساني والوطني.

وعندما نُهيئ فضاءً حرّاً للفكر، نكون قد وضعنا أول حجرٍ في بناء دولةٍ تُفكّر قبل أن تُقرّر، وتستشرف قبل أن تتحرك، وحينها فقط، نستطيع أن نقول أن الدولة بدأت تُفكّر.