تعتبر التنشئة السياسية احدى اهم المواضيع التي تثير الجدل لدى المختصين في علم الاجتماع السياسي وعلم النفس السياسي، وذلك لما لها من تداعيات ومؤثرات تتصل بالفرد منذ ولادته مرور بمرحلة النضج وصولا بسن الشيخوخة وبالمجتمع بشكل عام، فهي تقوم على اساس البنيان الشخصي للأفراد من حيث المبادئ والقيم والاتجاهات والايديولوجيات التي سيحوذ عليها من الاسرة والمجتمع والخ، أي المنتقلة من جيل الى اخر، او التي يكونها او يؤسسها اثر المتغيرات والتحولات الاجتماعية الكبيرة، او اجراء تغيير في سياق الثقافة الدارجة بسبب التطور الحاصل في المجتمع ومواكبة المستجدات. ويحدد بذلك ادواره ومواقفه الذي سيتبنها في المجتمع بشكل يومي ومتكرر اتباعا. وتربط التنشئة السياسية بمجموعة من العوامل التي تعني بذات الفرد نفسه والاخر المجتمع او المحيط الذي يعيش فيه

: أ‌- العوامل الموضوعية. تتأثر التنشئة السياسية في مجمل طبيعتها على عنصرين وهما الزمن والمكان، حيث تختلف التنشئة السياسية لكل مكان عن آخر ومن زمن الى اخر وفق مجموعة من الخصائص الموضوعية ونظرا للمستجدات والمتغيرات التي طرأت عليها مثلا: 

- النظام السياسي

 الانظمة التي رسخت فيها مفهوم الديمقراطية والحريات لمواطنيها تعمل على تفعيل هذا المفهوم وفق اطر تصب في مصلحة المواطن والهوية الوطنية رغم الاختلافات السياسية والحزبية، وفي الانظمة الدينية تندمج التنشئة السياسية ضمن نطاق التنشئة الدينية الواسعة والتي تعمل على تبنى ثقافة سياسية لاهوتية موجهه، اما في الانظمة الشمولية او الانظمة ذات نظام الحزب الواحد الحاكم فأنها تتبنى موسوعة تثقيفيه موجهه ومخططة باتجاه نظام الحكم وتتصف بانها غير قابلة للتغيير او التعديل واذا جرى التعديل يجب ان تصب لصالح السلطات الحاكمة. 

- الثقافة السياسية

 ترتبط التنشئة السياسية بشكل مباشر في الثقافة السياسية المتواجدة في المجتمع، وتعتبر الاخيرة جزء لا يتجزآ من الثقافة العامة التي تستند على الافكار والمعتقدات والايديولوجيات والتوجهات القومية والفكرية والأثنية كذلك العادات والتقاليد الموروثة في المجتمع، حيث تتحدد الثقافة السياسية بالمستوى المعرفي للأفراد بالنظام والسلطة الحاكمة، وبالمحدد الرمزي الذي يشير الى المستوى المتباين من العلاقة بين الطبقة الحاكمة والمحكومة، والمحدد الثالث هو المحدد التقييمي، الذي يعني به تقييم الافراد للأحكام والشرائع التي تصدر من قبل النظام والحكومة. واذا ما عمقنا التفكير في هذه المحددات الثلاثة نستنتج انها تتأثر بالفوارق الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع وبالتالي تكون تنشئة السياسية متباينة وتختلف عند هذه الفئات من حيث تعاطيها وتفسيرها وتحليلها ومن ثم تعاملها مع الاحداث السياسية والاجتماعية والعسكرية، فالشرخ يبدأ في مقياس الطبقة الدنيا التي ترى نفسها هي ضحية مهاترات الطبقة السياسية او الغنية من المجتمع إزاء اي حدث او موقف معين. في حيث تكون الطبقة الوسطى هي وسطية التفكير وتتماشى مع التوجهات اليمينية المؤيدة او اليسارية الرافضة للموقف. 

- التعددية والتغييرات الاجتماعية

 ان احد اهم عوامل تاثر التنشئة السياسية هي النسق الاجتماعي والتعددية الأثنية والعرقية والقومية والمذهبية والحزبية والجنسية والجندرية في المجتمع فهي غالبا ما تكون مشتتة او صعبة التوحد في المجتمعات ذات تعددية خصوصا في الدول النامية، الا في الدول المتحضرة تعمل الحكومات الى تغيير هذا العامل الى عنصر ايجابي يقود نحو الهوية الوطنية العامة. في حين كلما قلت التعددية في اشكالها كانت سهلة التوجه والتخطيط والتوحيد. اضافة الى ذلك تعتمد فكرة التلقين عن ثقافة معينة او تكوين ثقافة او تعديلها على نسبة التغييرات والتحولات الاجتماعية في تلك العينة من المجتمعات، فكلما كانت هنالك تغييرات في المجتمع كانت هنالك ثقافات سياسية متعددة ومعقدة في بنيانها الشكلي ومضمونها الفكري وكذلك تختلف من حيث مؤيديها ومعارضيها. وتطورت آليات التنشئة السياسية في الوقت الحاضر حيث تركز دول العالم على استخدام الطرق الغير التقليدية في نشر ثقافاتها وسياساتها الموجهة فقد اصبح العالم يرسخ جهوده الى نشر افكاره وايديولوجياته عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام ومنظمات المجتمعي المدني، ففي الآونة الاخيرة ظهرت العديد من المسميات الاجتماعية التي تمحورت بعضها في الرؤية السياسية والاجتماعية، فمثلا التماثل السياسي اثر موقف او حادث سياسي او عسكري، فيمكن ان تنقسم الجماعات الى قسمين وفق رؤية او معتقد معين لكن بالمجمل هي عملية موجهة تقصد بها زيادة معلومات عن قضية معينة وبالتالي جمع خزين من الحماسة لأنشاء رأي عام خاص بتلك القضية. 

ب‌- العوامل الذاتية. 

اكد اغلب الفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين في القرون التي سبقت الميلاد امثال افلاطون وارسطو على اهمية التربية والتعليم في بناء الشخصية لدى الاجيال الحالية والقادمة وفتح مديات مخيلتهم في التطلع على البيئة والنظام والمحيط الذي يعيشون فيه، وان اغلب الدارسين في مجال التنشئة السياسية يشيرون الى ان البنية السليمة للتنشئة السياسية تبدأ مضمارها من الاسرة التي تعتبر هي اولى نواة التعليم والتربية والتلقين، ومن ثم تتطور هذه المرحلة لكي تدخل حيزا رسميا من السيل التربوي المدمج بالتوجه السياسي عبر مناهج خاصة قد تسمى بالثقافة المدنية او السياسية او منهج الوطنية، وبهذا يتم ترسيخ المواطنة الاولية في ذهن التلميذ او الطالب من اولى المراحل التدريسية، وثم قد تتجذر الى مراحل اخرى قد تكون ضمن الزمالة او الرافقة مع المتوازيين عمريا او مهنيا معهم، او عبر قنوات حزبية او اتحادات او نقابات، ومن ثم الدخول الى فضاء الجامعة التي تعتبر اكثر مرونة وانفتاح في التفكير السياسي والنضوج الفكري والميول السياسي والحزبي. ما يعني ان عملية التنشئة السياسية هي عملية ديناميكية مستمرة تقوم على اساس التربية والتعليم لدى الفرد منذ الصغر كي تكون لديه الدراية لمجريات الشؤون والحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهي تعتبر مجموعة من الجزيئات تتكون وتشكل شخصية نافعة ومستنيرة في المجتمع، فيكون لديه القدرة على المتابعة والمشاركة وحتى المراقبة على الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تجري في محيط بيئته. 

  • الاطار التطبيقي لمفهوم التنشئة السياسية.

 تسعى الدول المتحضرة الى تبنى فكرة التنشئة السياسية لزيادة الحس والوعي الوطني وتوحيد مفهوم المواطنة وتعظيم المقدسات الوطنية والاشادة الى المواقف التاريخية التي سعت الى الحفاظ على المواريث التاريخية، مثل الولاء للأرض والشعب والعلم، وكذلك تعمل تلك الدول الى منع المسميات الاخرى التي تتلخص بالتعدديات العرقية والقومية والاثنية والدينية والمذهبية والجنسية والجندرية بان تشكل تحديا او معرقلا لمفهوم المواطنة والوحدة الوطنية بل تعمل على ان نجاح التنشئة السياسية التي تؤدي بكل تلك التعدديات ان تصب في مصلحة الوطن والمواطن وان تجعل منها لوحة فسيفسائية مبهجة للأنظار. اما في الدول النامية غالبا ما تكون فيها التنشئة السياسية ذات شكلين وهما اما التبعية او الشمولية، ففي التنشئة التبعية فهي تكون نتيجة لميراث الاحتلال الذي عمل على الاستهانة بالثقافة السياسة المحلية واعتبارها قديمة وغير قابلة للتمدن وبهذا عملت على تكوين تنشئة جديدة للمجتمعات مثل الهند ابان الاحتلال البريطاني، اما التنشئة الموجهة او المخططة فهي غالبا ما تكون من قبل الانظمة الشمولية التي تسعى للحفاظ على ثقافتها الخاصة والمشرعنة لبقاء تلك الطبقة الحاكمة، وهي تبدأ بتكوين ثقافة سياسية معينة وتعمل على الاستمرارية دون تغيير او تمرد، مثل ألمانيا في عهد أدولف هتلر، والعراق أبان النظام البائد. 

وتدخل التنشئة السياسية في طبيعة تطبيقها سياقا ضيقا من التنفيذ والتطوير، حيث تعمل الطبقة السياسية الى رفض الافكار الوطنية وتعمل على اخذ المسار القومي او الديني او المذهبي والخ، وتعمل على تقديس المفاهيم الفرعية والثانوية وتجعل منها هويات وشعارات تجذب الجماهير التي قد تعودت على هذا المضمار من التوعية، وبلا شك ان سبب تبنى هذه التوجه يعود الى سر بقاء تلك الجهات او الطبقات في رأس الهرم في المجتمع، وبذلك ان مفهوم الوطنية هي مجرد كلمات غير قابلة للتطبيق او معطلة في ضوء الانقسامات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وان المواطن هو يميل نحو الهويات الفرعية بدل المفهوم العام. وينظر للبدائل التي تقوم بدور الدولة بدل الدولة نفسها، بدأ من غياب الهوية الوطنية التي اصبح بديلها هويات قبلية ودينية ومذهبية وعرقية، واصبح بديل القانون المدني الذي يستمد قوته من سلطة الشعب قوانين أثنية ودينية ذات نطاق مكاني ضيق تحكم المجتمعات، وبدل ان تقوم مؤسسات الدولة باسترجاع الحقوق لذويها اصبحت الجهود الفردية للجماعات العرقية والأثنية هي الضامن الاجتماعي الامثل للفرد في استرداد حقوقه. وبالتالي يؤدي الى فقدان الثقة بالنظام ومفاصل الدولة من حيث الشكل والفعل وتغيب مفاهيم الوطنية في مهب الريح، وتهيئ ارضية مناسبة للدلالات الثانوية والفرعية الاخرى التي تتعالى على القانون العام، وتهدد السلم الاهلي وتقود الى بروز مافيات وعصابات تحت اذرع معينة تقوم مقام الدولة في ادارة كل المفاصل والتفاصيل اليومية، وهذه ما يسميها علماء علم الاجتماع السياسي بـ (الثقافة السياسية السوداء). 

لذا يجب ان يتم طرح نسق سياقي جديدة يوحد الافكار في المحصلة لتكون بديل للقيم والثقافة السياسة العتيقة، عبر تبنى تنشئة سياسية مخططة التي تعتبر احد الوسائل المحقق لذلك فعمليات التطور الاجتماعي والاقتصاد للوطن والمواطن في المجتمعات النامية تتطلب تنمية مشتركة ومتوازية ومستقرة بين هذه المكونات الرئيسية، والتي تتطلب بدورها اعادة تنشئة الاجيال الحالية والقادمة بشكل صحيح وصحي وقويم يساعدها على التعايش الايجابي مع الواقع الحالي بجوانبه السياسية والاقتصادية والمادية، ذلك ان الوضع الجديد برمته يتطلب احداث تغيرات جوهرية، تطبق بشكل تدريجي ومنظم في مجمل المفاهيم والايديولوجيات التقليدية التي تحكمت في المشاعر والعقليات الشعبية لعقود طويلة من الزمن.