حينما شعر أولئك الذين صنعوا آلهتهم من التمر بالجوع سارعوا إلى التهامها، وفروا من الدستور إلى حيث كان يقول دكتاتور العراق الكبير صدام حسين:

    ( ليس لدينا قانونا كالقرآن فنحن الذين نصنع القوانين والدساتير وفي أي لحظة نلغيها ونعدلها بما يخدم مصلحتنا!).

    لقد أدرك غالبية الكوردستانيين وقياداتهم وفي مقدمتهم البارزاني إن برنامج أعداء الفيدرالية اكتمل وهم قاب قوسين من تطبيقاته، واجتياح الإقليم وإلغاء كيانه وتجربته والعودة لا إلى المربع الأول بل إلى ما دونه، فسارعوا إلى إجراء الاستفتاء تعبيرا إنسانيا وقانونيا وأسلوبا مدنيا متحضرا للرجوع إلى رأي الأهالي في مسألة مصيرية تتعلق بحياة ملايين من البشر، إلا أنهم اعتبروا ذلك وبعنجهية بدائية إن هذا السلوك معادي لهم، وهو يمس أساسيات الدولة العراقية ( حسب تفسيرهم )، تلك الدولة التي وصفتها ديباجة الدستور ووضعت أقفالا ومفاتيحا للدخول والخروج منها، ووصفت العراق الجديد بأنه (عراق المستقبل، من دون نعرة طائفية، ولا نزعة عنصرية ولا عقدة مناطقية ولا تمييز، ولا إقصاء.) وإذا كان هذا هو القفل فان المفتاح في هذا النص الذي ختم الديباجة هو: (إنّ الالتزام بهذا الدستور يحفظُ للعراق اتحاده الحر شعبا وأرضاً وسيادةً).

    ورغم ذلك اختاروا لغة الدماء والاجتياح وإيقاف العمل بالدستور، وخرقه باستخدام القوات المسلحة لحل النزاعات مع الأقاليم والمحافظات، هذه القوات التي تم تعريفها دستوريا في المادة التاسعة أولا/ أ: (لا تكون أداة لقمع الشعب العراقي ولا تتدخل في الشؤون السياسية ولا دور لها في تداول السلطة)، ورغم ذلك تم احتلال كركوك والمناطق المتنازع عليها، وتهجير أكثر من 180 ألف مواطن منها وحرق بيوتهم وسرق ونهب ممتلكاتهم، بل وان أول بيان إعلان احتلال كركوك تم منع استخدام اللغة الكوردية من قبل قائد العمليات العسكرية لمنطقة كركوك اللواء علي فاروق، رغم إن اللغة الكوردية هي اللغة الرسمية في العراق إلى جانب العربية كما جاء في المادة (أولاًـ اللغة العربية واللغة الكوردية هما اللغتان الرسميتان للعراق ).*

 

    وإزاء غزوة كركوك التي مزقت روحية الدستور مستهدفة أكثر من 92% من شعب وكوردستان، فقد جاءت الانتخابات العراقية الأخيرة لتؤكد جملة من الحقائق، في مقدمتها فشل مشروع الإقصاء والتهميش لحركة التحرر الكوردستانية المتمثلة بالحزب الديمقراطي الكوردستاني ورئيسه مسعود بارزاني، الذي اكتسح صناديق الاقتراع في كوردستان متقدما على مستوى العراق والإقليم، مما يتطلب إعادة النظر ومراجعة العلاقات بين أربيل وبغداد بعيداً عن التعصب والتوتر وأن تكون تلك الانتخابات بداية لمرحلة جديدة بين الجانبين، مرحلة فرضتها إرادة الشعبين العراقي والكوردستاني، العراقي حينما رفض أكثر من نصف سكانه التصويت احتجاجا على فشل الحكومات وبرلمانها، وكوردستانيا هذا الإصرار على التمسك بقيادته وحركة تحرره الوطني والقومي الذي رفض كل نتائج غزوة كركوك وتداعياتها، وأصر على الديمقراطية والحوار والانتخابات، التي أفرزت واقعا جديدا يتطلب أن يكون العراق وكوردستان تحت حماية الدستور والشراكة الحقيقية، لا تحت تصرف أولئك الذين ينظرون بعين واحدة ويلتهمون مقدساتهم نزولا لرغباتهم الغرائزية المقيتة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* رابط منع استخدام اللغة الكوردية من قبل قائد عمليات كركوك:

www.youtube.com/watch?v=iPV3j6WCa1k