لم تزل تصريحات المسؤولين والنوّاب حول غسل الاموال تأتي بنحو عام، ولم تشخص الاسباب، بل حملت عنوانين اعتاد الرأي العام على الاستماع لها، وعبارات مألوفة وهي بذلك كانت تفتقر إلى الدقة وتبتعد عن تشخيص الاسباب واقتراح الحلول ولم تكن تقصد الا تضليل الرأي العام والتشويش عليه، باتهامات عريضة إلى "مافيات سياسية، مصارف متهمة بالفساد، مسؤولون يقفون وراء عمليات غسل الاموال".

جريمة غسل المال بتعريف عام، هي "إضفاء الصفة الشرعية على اموال مصدرها غير مشروع، بشكل يجعلها تبدو في صورة مشروعة باستخدام اساليب عدة".

لعل أبرز صور غسل الاموال في العراق، تتمثل بالخروق على عمليات بيع الدولار من خلال مزاد العملة التابع للبنك المركزي والتحايل على تعليماته.

العراق يوفر الدولار رسمياً إلى الشارع من خلال البنك المركزي في طريقين، أولها من خلال محلات الصيرفة المنتشرة في البلاد.

هذه الصيرفات ينصب عملها على بيع الدولار إلى المواطن شريطة تقديمه نسخة من جوازه وتذكرة طائرة الرحلة لأغراض علاجية أو سياحية أو دراسية.

صاحب الصيرفة ملزم ببيع الدولار إلى المواطن بالسعر الذي يحدد البنك المركزي وكذلك له الحق في الحصول على فارق السعر، بين ما يبيعه إلى المواطن المسافر للعلاج أو السياحة أو التعليم وما اشتراه من البنك المركزي بحصص اسبوعية.

لكن الذي يحصل بموجب تحقيقات محكمة غسل الاموال في بغداد، هو أن اصحاب الصيرفات يقومون بتزوير جوازات وتذاكر مستنسخة لغرض الحصول على مبالغ كبيرة من الدولار وبيعها إلى المواطن بدون أي مسوغ قانوني، وهي جريمة لا تندرج ضمن غسل الاموال.

أما عن الطريق الاخر لبيع الدولار، من خلال مزاد بيع العملة الذي تشترك فيه المصارف الاهلية وهنا كما قلنا سابقاً تنشط عمليات غسل الاموال. التي أنقلها عن تحقيقات المحكمة ايضاً وليس مجرد تحليلات وأراء من خلف الحاسوب.

هذه المصارف تحولت إلى ممرات سهلة لغسل الاموال، من خلال ما سأعرضه تباعاً بعمليات تحايل على تعليمات البنك المركزي المتعلقة باستيراد القطاع الخاص.

مبدئياً، أن المصارف الاهلية لها بموجب تعلميات البنك المركزي، أن تحصل على هامش ربح من عمليات بيع الدولار إلى التجار والمستوردين، مقارنة بما تشتريه من خلال مشاركتها في مزاد بيع العملة كونها مخولة في المشاركة بهذا المزاد.

العملية تبدأ بتقديم تاجر أو مستورد طلباً بفتح حساب إلى المصرف الاهلي لغرض الحصول على كميات من الدولار ويعزز طلبه بمستمسكات تؤكّد هويته كتاجر، إضافة إلى وثائق تؤيد عملية الاستيراد منها قوائم شراء البضاعة وبراءة ذمة من الضريبة واجازة استيراد من المعارض العراقية.

"أعرف زبونك"، واحد من ابرز المبادئ الذي تتخطاه المصارف الاهلية في التعامل مع عملائها، بل أنها تسارع لتلبية طلباتهم بدون معرفة خلفياتهم التجارية، بغية الحصول على الربح بأسرع وقت دون أن تتاكد من مدى قدرة الزبون على توفير المبالغ العراقية لشراء الدولار وهل هو تاجر حقيقي أم أنه يمثل واجهة لمافيات تمارس عمليات غسل الاموال بواسطته.

المصرف الاهلي يشارك في مزاد العملة بوصفة وسيطاً بين البنك المركزي والتاجر ويشتري للأخير ما يحتاجه من العملة الصعبة ومن ثم يطلب من البنك المركزي تحويلها إلى البنك المراسل (هو البنك الذي يوجد فيه حساب الجهة الموردة للبضاعة) خارج العراق بذريعة أنها ثمن البضاعة على أن يتعهد الزبون والمصرف الاهلي بجلب التصاريح الكمركية خلال 3 اشهر من تاريخ اجراء التحويلات المالية، وهنا يفترض ان تدخل البضاعة لكن الواقع يشير إلى خلاف ذلك.

فأما أن الوثائق التي قدمها مزورة ولا توجد هناك بضاعة، أو أن الشحنة لا تساوي شيئاً مقارنة بما طلبه من مبالغ من خلال مشاركة المصرف الاهلي في مزاد العملة، مع الاشارة إلى أن التدقيقات عادة ما تكون لاحقة لعمليات الصرف ليتم كشف الجريمة!.

من الناحية القانونية، تم تشريع قانون جديد هو قانون مكافحة غسل الاموال وتمويل الارهاب رقم (39) لسنة 2015 وقد فرض عقوبات مشددة على مرتكبي جرائم غسل الاموال واعتبر مثل هذه الافعال جنايات، كما خصص القضاء محكمة تحقيق مختصة بنظر قضايا غسل الاموال ومحاكم جنح وجنايات مختصة لهذا الغرض، التي طالب قضاتها بـ "وضع آليات لتدقيق صحة الفواتير والتأكد من حساب الزبون وحقيقة المبالغ المطلوبة هل أنها لتغطية استيرادات القطاع الخاص أم لأسباب أخرى".

وقد كشفت تحقيقات محكمة تحقيق غسل الاموال أن بعض المصارف الاهلية استخدمت حسابات زبائنها بدون علمهم للدخول إلى مزاد بيع العملة وتحويل الدولار وقد تفاجئ الزبائن المذكورين عند مراجعتهم للهيئة العامة للضرائب عن وجود مبالغ ضريبية كبيرة بذمتهم نتيجة دخولهم في مزاد لم يدخلوه بعلمهم أو بارادتهم.

 

وأجد أن تعليمات البنك المركزي تضمنت تحميل المصارف الاهلية كافة تبعات جرائم غسل الاموال في حين كان من المقتضى أن يتحمل البنك المركزي جزء من هذه المسؤولية كون أن موظفيه مسؤولون عن تدقيق طلبات الحوالات الواردة وعدم اتمام عملية شرائها وتحويلها في حالة وجود شبهات غسل أموال.