في الذكرى العاشرة لوفاة الرئيس عبد الرحمن محمد عارف
الرئيس العراقي يخاطب شاه إيران: إذا أندلعت الحرب فلن نتمكن من إيقافها ..
نقل لي جدي انه كان يقف وعبدالرحمن بجوار التابوت الذي يضم جثمان اخيه عبدالسلام وخاطبه "هاي الردتها ورطت نفسك بيها وورطتنا وياك" رحمهم الله اجمعين كان يقصد انه تورط في تسلم هذة المسؤولية وهو غير راغب بها وزاهد في المناصب مع انه كان رجل دولة من الطراز الرفيع واهلاً لهذا المنصب .
عبدالرحمن اتبع سياسة متوازنة مع كل الاطراف الخارجية وكذلك الداخلية , سياسة شفافة تعتمد في الاساس على حماية امن العراق وسلامته وتضع مصلحته في المقام الاول , ولذا فان فترة توليه الرئاسة كانت سنوات هادئة لم تحمل الكثير من المشاكل ومع قصر المدة التي استمر فيها الا انه حقق الكثير من الانجازات وساذكر ثلاث محاور هـي:
العلاقات الخارجية
كانت في افضل حالاتها في زمن عبدالرحمن تقوم في الاساس على احترام الجوار وعدم التدخل في شؤونه وتحقيق اكبر قدر من المصالح المشتركة بما يضمن عدم المساس بالسيادة ,زار عارف كلا من "تركيا الأردن السعودية سوريا إيران الكويت" وفي هذا السياق ساذكر حادثة مع الشاه "عن لسان وزير الخارجية عدنان الباجه جي اطال الله بعمره" .
يقول الباجه جي ذات صباح هاتفني رئيس ديوان الرئاسة وأخبرني بأن السيد الرئيس يريدني أن أتوجه إلى معسكر الرشيد على الفور وحين سألته عن السبب قال هناك ستعرف وفور وصولي وجدت طائرة عسكرية على وشك الإقلاع وحين دخلتها وجدت أن الرئيس قد سبقني إليها ومعه وزراء الدفاع والداخلية والموارد المائية ثم أقلعت الطائرة, لم يخبرني الرئيس ولا زملائي الوزراء بوجهتنا إلى أن علمنا بأن الطائرة دخلت الأجواء الإيرانية دون ترتيب ديبلوماسي مسبق ودون علم الجهات الإيرانية المعنية حين خاطب قائد الطائرة برج المراقبة الإيراني وأخبره بأن السيد رئيس الجمهورية العراقية قادم لتناول طعام الغداء مع جلالة الشاه .
ويردف وهبطنا وتوجهنا فورا إلى القصر الملكي وكانت المفاجأة أن وجدنا الشاه في انتظارنا عند المدخل الخارجي للقصر على غير عادته مرحبا بالرئيس وبنا بحرارة وفي جلسة غير رسمية في صالة استراحة القصر بادره الرئيس عبدالرحمن بالكلام قائلا بابتسامته العفوية التي عودنا عليها "لماذا أنت غاضب أيها الأخ والجار والصديق؟ أتريد ماءً؟ خذ ماءً بقدر ما تستطيع فنحن إخوة وجيران وحق الجار على الجار" وأردف قائلا "نستطيع الآن أنت وأنا أن نعلن الحرب بين جيشنا ولكن صدقني لا أنت ولا أنا سنستطيع وقفها لأن عشرات الأيدي الخفية سوف تتدخل وتتلاعب وتطيل أجل الحرب سنوات طويلة ولن يدفع الثمن غير شعبينا وجيشينا ولن ينتصر أحد منا على الآخر مهما قلتُ أنا وفعلت، وقلتَ أنت وفعلت، أنا عسكري وأعرف ما تنتجه الحروب لأهلها فهل توافقني على ذلك" يقول الدكتور الباجه جي وهنا نهض الشاه مبتسما وعانق الرئيس ثم هدأت الخواطر وحل الوئام والرضا والسلام وتناولنا طعام الغداء وعدنا ونحن فخورون بمبادرة الرئيس الذي أنجز بطيبته وبعد نظره ما لم أستطع أنا وزير الخارجية وخبراؤنا وسفراؤنا أن ننجزه مع إيران في شهور.
وفي نفس السياق نقل لي السيد قيس نجل المغفور له عبد الرحمن ان الاخير قال للشاه في نفس الجلسة "أن أرض العراق ومياهه وحدوده ليست عقاراً مسجلا باسمي ولا ملكا صرفاً لعائلتي ولا مقاطعة من مقاطعات أجدادي ولا حقلا زراعياً من حقول عشيرتي ولا إرثاً لأبناء قبيلتي ولا غنيمة من غنائم أهلي أنها ملك الشعب العراقي وحده ولا يمكن التفريط بها أو التنازل عنها أو بيعها أو تأجيرها أو التلاعب بخرائطها أو المقامرة بها أو المغامرة بها أو المساومة عليها أنها الواحة الفردوسية الرافدينية المقدسة التي اختارها الله جل شأنه مهبطاً لرسالاته السماوية ومثوى لأنبيائه وصومعة لأئمته ومنطلقاً لسلالاته البشرية هي الأرض التي حملت شعلة الإنسانية والتحضر وطافت بها في أرجاء المعمورة فلا أنا ولا غيري يمتلك حق التفريط بها وببحرها الإقليمي وممراتها الملاحية ومقترباتها المينائية" وظلت السيادة الملاحية الكاملة في شط العرب تحت إشراف وإدارة البحرية العراقية حتى عام 1975.
الاستثمارات والعقود
رفض الرئيس عبد الرحمن محمد عارف منح الشركات العالمية امتيازات في مجالات النفط والكبريت وحظر على الشركات الأجنبية الاستثمار المباشر في مجالات النفط والغاز والكبريت, وقد زار وزير الخزانة الأمريكية الأسبق هندرسون زار في 21 كانون الثاني 1968 قادماً من القاهرة بعد لقائه الرئيس المصري جمال عبد الناصر مشيراً إلى أنه كان يحمل رسالة من الاخير الى عارف يوصي بها منح هندرسون عقوداً نفطية وكبريتية كونه من الشخصيات الأمريكية التي تقف مع القضايا العربية بيد أن عبد الرحمن رفض ذلك وقال "بإمكانكم العمل كمقاولين لدى الدولة شأنكم شأن الشركات البولونية والفرنسية والروسية وبالأجور المعتادة ولا امتياز لأحد" هندرسون انزعج ورفض هذا العرض وعاد قافلاً إلى بلاده بعد هذه الزيارة بدأت المشاكل تنهال على حكم الرئيس عارف .
ولا ننسى ذكر ان عارف هو أول من حظر تصدير النفط لأمريكا بعد العدوان الإسرائيلي في حزيران 1967 .
الرئيس الانسان
كان انسانا هادئا وادعا حمامة سلام كما يسمونه العراقيون وقد شهدت حياته الكثير من المواقف الانسانية التي قدم فيها الرحمة على القصاص وروح القانون على نصه وسأكتفي بذكر حادثة كان شاهدا عليها ووسيطاً جدي رحمه الله , اصدر القضاء العراقي عددا من احكام الاعدام بحق اشــــــــــــخاص ادينوا بجرائم قتل واذكر منها اخوان سجينان من عشيرة العنبكية في مدينة ديالى حكم عليهما بالاعدام بجريمة قتل ابن عمهما وقد تم تصديق الحكم بشكل نهائي من قبل المحاكم المختصة وتمت احالة اورقا الحكم الى رئاسة الجمهورية لغرض التصديق عليها .
اتصل جدي بالرئيس هاتفياً وابلغه ان الاخوين بريئان من جريمة القتل وان القاتل الحقيقي اخوها الثالث ، استغرب الرئيس لهذا الحديث وطلب استقدام القاتل الحقيقي امامه وفعلا بعد ايام تم احضاره وعندما شاهده الرئيس عبد الرحمن قال "مستحيل ان يكون هو القاتل "كانت ذراعه اليمنى مقطوعة من منطقة الكتف" كيف لمثله ان يمسك بندقية برنو ويضرب بها" فقال الشخص سيدي فعلا انا القاتل فقال الرئيس "لا اصدق الا بعد ان ارى بعيني كيف تستخدم البندقية وتصوب بها" وفعلا خرجوا الى منطقة بها مجموعة من النخيل في محيط القصر الجمهوري وقدمت بندقية للشخص وهنا قال للرئيس سيدي اي سعفة ترغب ان اصيبها بالبندقية اختار الرئيس واحدة من سعفات النخيل وامره بالتصويب وكانت اصابته بالهدف طلب الرئيس تكرار الرمي على ثلاثة اهداف اخرى وكانت اصابته دقيقة, ايقن الرئيس ان هذا الشخص هو القاتل لاعترافه المباشر ولقدرته على استخدام السلاح بيد واحدة وقال للقاتل لماذا قتلت ابن عمك فاجابه سيدي لقد اهانني امام الناس بالمقهى وضربني بشدة وبعد ايام كمنت له في احد البساتين وكنت انوي اصابته فقط الا انها اصابت مقتله .
اتصل الرئيس بعدها برئيس محكمة الأستناف للمداولة بشأن الموضوع فكان الجواب ان حالة العوق لدى القاتل تنفي بشكل نهائي التهمة عنه الا اذا اعترف فقال الرئيس "القاتل الحقيقي لايود الاعتراف امام القضاء ونحن لانريد نزع اعتراف منه تحت الضغط او التعذيب" فاجابه سيدي اذن الجريمة على المحكومين بالاعدام ثابتة .
اقامة وليمة
بعدها امر الرئيس عبد الرحمن عارف باقامة وليمة دعيت اليها العائلتان ومعهم شيوخ من عشيرة العنبكية وبعد الترحيب بهم قال لهم "لقد خسرتم قبل مدة شخصا من العشيرة وبعد ايام ستخسرون شخصين باعدامهما وبهذا ستستمر العداوة مابين اولاد عمومتكم الى اجيال واجيال, انا دعوتكم اليوم لاجل ان نحل هذه المشكلة وانا اعرف جيدا ان الرجال لاتقدر بثمن واني مستعد لدفع اي مبلغ (فصل) ترضونه, واضاف اعلموا ان تراضيكم لا يعني العفو عن اولاد عمكم حيث سيبقيان محبوسين في السجن ولكني لا اصدق على اوراق اعدامهما فاذا وافقتم فلنتوكل على الله" هنا اجابت عائلة المقتول لطلب الرئيس واعلنت تنازلها عن دم ولدهم وعن الدية اكراما للرئيس .
 
 
ويذكر انه كان يكره ان يصادق على حالات الاعدام ويؤجلها دائماً ,وفي مرة اتصل به وزير العدل لغرض التصديق على اوراق الاعدام فقال له الرئيس "خلي ناجلها هسه" فاجابه الوزير "سيدي هاي اوامر قضائية مو ممكن تعطيلها او تأخيرها اكثر" فأجابه "اذن عندي مؤتمر في الخارج بعد كم يوم وسأخول فلانا للتوقيع بما يراه مناسبا" .