التأسيس لمرحلة جديدة
من خلال استقراء الوضع وتحت ظلال الاحتمالات المتعددة لمستقبل نينوى، اصبح لزاما علينا جميعا ان نبحث عن أدوات ومستلزمات ومكونات صنع السلام وتلقيح الفكر الجمعي بلقاح المعرفة التي يسبقها الاصرار على تغيير الواقع المعاش من حالة الخراب الفكري الى الحالة السليمة التي تقوم على بنيانها المجتمعات المتحضرة المسالمة، وعلى قاعدة متينة تؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ المحافظة لتصبح انموذجا حياً قد يغير خارطة الشرق الأوسط ككل ويمهد لسلام واستقرار شامل بصيغة متكاملة في المنطقة عموماً، مع الاخذ بنظر الأعتبار دينامية الثقافة التي تستند على تقويم السلوك والسمة الثقافية الجمعية في المجتمع لنصل الى مرحلة الاستقرار في التكوينات النفسية وتنظيم الظواهر الثقافية وتعزيز الانسجام مع روح الدستور والقوانين النافذة.
السلام يصنع ولا يمنح
من خلال تجربتي المتواضعة ونشاطاتي في دعم منظمات المجتمع المدني وفعاليات بناء السلام بالتنسيق مع المنظمات الدولية المتخصصة فإنني توصلت الى قناعة مفادها بان السلام يصنع ولايمنح، كماهو الحال في مفهوم الحرية والحقوق اللتان تنتزعان ولاتمنحان، وصناعة السلام صار أمراً مهماً في عالم يضج بالمشاحنات والنزاعات والخلاف الفكري بشقيه المنظم والعشوائي.
المسؤولية التضامنية
ابتداءً علينا ادراك حقيقة واضحة تتجسد في الاعتراف بأن صناعة السلام مسؤولية تضامنية وهي بحاجة الى ادارة وتنظيم مؤسساتي وارادة مدنية قوية وإشراك كافة الفعاليات الاجتماعية. وما ألاحظه بشكل عام هو وجود مؤشرات لتسييس السلام اكثر من المشاركة الفعالة لبناء قاعدة متينة للسلم الأهلي والمجتمعي ومع انني اعتبره خطوة إيجابية نحو الهدف المقصود ولكن تبقى احتمالات الفشل قائمة عندما تتعارض المصالح الضيقة على حساب السلم العام وفي نفس الوقت لايمكننا تجاهل دور الأحزاب والكتل في بلورة رؤية شاملة في اطار عمل مشترك لبناء السلام وأتمنى منها ان تركز على هذا الموضوع وتضعه على قائمة برامجها واستراتيجياتها وتشكل لجان وأقسام ضمن هيكلياتها لمتابعة هذه النشاطات. حتى المتضررين يمكنهم ان يلعبوا دورا بارزا في صنع السلام من خلال مبادرات اجتماعية ذات طابع انساني حيث ان عربة السلام تسير على إطارين، الاول هو فرض القانون من خلال اجراءات العدالة الانتقالية، والثاني هو التوعية الشاملة التي تبدأ من البيت الى اعلى هرم السلطة وكانت لولاية باليرمو ( جزيرة صقلية ) الايطالية تجربة ناجحة في هذا المجال عندما واجهت عصابات المافيا ونجحت في القضاء عليها.
دور النخب المجتمعية
ان السلام صناعة مجتمعية شاملة يجب ان يشارك في صنعه كل أفراد المجتمع لانه مع الاسف الشديد فان قاعدة السلم الأهلي في المنطقة هشة وان ماارتكبه داعش من جرائم إبادة جماعية دليل قطعي على هذا الامر، والنخب مطلوب منها الانخراط في هذه الجهود دون استغلالها لأغراض شخصية او سياسية لان صنع السلام تحدي كبير جدا ويتطلب جهدا كبيرا وفترة معقولة وان تجارب العالم تبين لنا بانه لامستحيل في إنجاز هذا التحدي لان الجميع سيستفيدون من ثماره. انا ادعوا كافة النخب الثقافية والاكاديمية الى تخصيص جزء من وقتهم وإمكاناتهم لتنمية ثقافة السلام والوئام وتحمل وتقبل الاخر المختلف، وعدم الاكتفاء فقط بالتركيز على اعمال الحكومة والإدارة واهمال الجانب الثقافي والاجتماعي والاقتصادي لان المثقفين والمفكرين هم أدوات فعالة في احداث التغيير المنشود وهنالك نماذج كثيرة يمكن الاشادة بها والاشارة اليها وهي مهمة وتحدي صعب جدا ولكن لاتوجد خيارات اخرى وحتى السياسية فشلت في تناول هذا التحدي بشكل حقيقي بسبب المصالح الضيقة. واؤكد بان لاقيمة للسياسة والسياسيين اذا لم يتركوا تأثيرا إيجابيا في ترسيخ مفاهيم ومقومات السلم والوئام المجتمعي وانا أودّ ان أشير الى نقطة مهمة جدا وأعرب عن اسفي الشديد بان المؤسسات التربوية والجامعات وحتى الاعلام الموجه لم يلعب دورا أساسيا ومهما في مواجهة هذا التحدي وبقيت الجهود فردية وخجولة ومشتتة ولذلك ادعوا الى تبني استراتيجية شاملة لتعزيز التسامح والوئام وثقافة حقوق الانسان ونحن في رئاسة مجلس محافظة نينوى نتشرف بان نكون شركاء حقيقيين لدعاة السلام والوئام والتعايش السلمي في نينوى سواء مع المنظمات الدولية او المحلية او الفعاليات والنشاطات الاجتماعية بشكل عام..
تنبيهات
ان الخطر الذي نواجهه في مرحلة صنع السلام يتمثل بالنزاعات التي تحدث باسم حقوق الانسان والديمقراطية والسلام، فلا يمكن للحروب التي تصاغ تفاصيلها في الخفاء وفي الغرف المظلمة أن تكون عاملا مساعدا لتأسيس السلام وترسيخه، فالحروب تصنع حروبا أخرى والنزاعات شبكة عنكبوتية معقدة لا يمكن الانتهاء منها والخلاص من تبعاتها الا بالحكمة والتروي والدراية والعمل الجماعي لصناع السلام، وبالتأكيد هناك من يحرض على الحروب ويروج لها من أجل مكاسب شخصية او فئوية وفي احيان كثيرة يبدأ هؤلاء باشعال فتيل الفتنة لصناعة حروب بحجة المظلومية او الايغال في التطرف او العنصرية وعلى أولي الأمر والمجتمع عموما الوقوف بحزم أمام هذه الاجندات التي لا تهدف سوى لنشر الفوضى والخراب وتفتيت المجتمع.
السلام الحقيقي يتمثل بالبناء لا بالهدم، بالاستقرار لا باالحروب، بالعيش المشترك لا بالانانية، بالمحبة واحترام الآخر وتقبل الآراء المخالفة وحرية التعبير والتسامح تحت مظلة الانسانية، والتجارب الكثيرة التي شهدتها المنطقة دليل حي على فشل الثقافة المتطرفة والاستعلائية لذا فاننا بحاجة الى بناء جديد في الفكر الجمعي لافراد المجتمع بكل اطيافهم واديانهم وقومياتهم.
علينا البدأ من انفسنا أولا، ثم ننتقل الى الأسرة التي ننتمي اليها، بعدها نتشكّل في مجاميع واعية لتغيير التفاصيل السلبية في حياتنا قدر الممكن حتى الوصول الى مرحلة الاستقرار التام في مختلف الصعد والمجالات.
الاختلاف لا الخلاف
لا يمكن لنا أن نتجاهل العالم من حولنا بأي حال من الأحوال لأننا جزء لا يتجزء منه، وما يحدث هنا ينعكس عليهم سلبا أو ايجاباً والعكس صحيح، فنحن جميعا أبناء هذه الأرض التي نعيش عليها منذ قرون طويلة.
ان صناعة السلام لا يمكن أن تنجح وتعطي ثمارها بدون الركن الأهم منها والتي تسمى ( ثقافة السلام )، اننا بحاجة لنبذ ما اعتدنا عليه من افكار سلبية والانخراط في ركب التطور عن طريق اكتساب ثقافة السلام وتقبل الآخر بكل اختلافه، وهذا الأمر مهم لديمومة الحياة الطبيعية التي يتطلع اليها الانسان، علينا نشر هذه الثقافة بين افراد المجتمع ليقوم كل منا بمسؤوليته في هذا الأطار، فصناعة السلام هي حقا مسؤولية تضامنية لا يمكن لجهة واحدة ان تقوم بها لوحدها.