يحدث أن تلتقي بشخص تتعلم منه درسا في النزاهة والاستقامة، درسٌ ناتجٌ عن سلوك واقعي حقيقي لموقف يمثل اختبارا ومحكا صعبا قلما ينجح في اجتيازه شخص غيره، درسٌ يبثه لك بهدوء وصمت، وتتلقاه أنت بدهشة كبيرة.. دهشة المتعطش للنزاهة والاستقامة في هذا الزمن الذي شهد انهيارا قيميا وإنسانيا من الصعب تداركه. درس يعيد الأمور أمامك الى نصابها الصحيح يخبرك أن ثمة أملا ما زال يمكن ان يمثل طوق نجاة من هذا الخراب.
في إحدى المؤسسات التي عملت بها كان هناك زميل يدعى رأفت وحيث ان المؤسسة حينها كانت تمنح ووفق السياقات الإدارية والقانونية لكل مدير قسم رصيد هاتف نقال بمبلغ يعادل ثلاثين ألف دينار أي ثلاثة كارتات من فئة عشرة آلاف دينار كي يستخدمها في اتصالاته الناشئة بسبب حاجة العمل، وفي الوقت الذي كان جميع مدراء الأقسام بمن فيهم كاتب المقال يتسلمونها بضمير مستقر كونها صرفت وفق سياقات صحيحة كان رأفت يعيدها للخزينة العامة ويجيب على تساؤلات الزملاء بان طبيعة عمله لا تستوجب إجراء أي اتصال وبالتالي فان صرفها له يكون في غير محله.
ويتكرر هذا الأمر شهرياً وسط سخرية البعض واندهاش البعض الآخر، في وقت كان يتهافت الكثيرون للحصول على امتيازات غير قانونية نجح رأفت في اختبار النزاهة على مستوى السلوك وليس على مستوى الحديث الشفوي الذي يتحدث به الكثيرون دون مصداق واقعي.
وفي إحدى اللجان التي اشتركت بها قبل فترة ليست بالبعيدة، كانت احد أعضاء اللجنة سيدة قوية الشخصية صعبة المراس يمكن ان تعترض على أي قرار او رأي يصدر من الأعضاء الآخرين، تمتلك من الثقافة والمعلومة والمنطق السليم ما يجعلها شخصية لافتة ومميزة، هذه السيدة تدعى شيرين تجعل من مصلحة الوطن أساساً لكل ما تتبناه من آراء وما تتخذه من قرارات وما يصدر عنها من مواقف.
وكانت تعترض على اغلب قرارات اللجنة لأنها تعتقد وبنية صافية ان القرارات قاصرة عن تحقيق أهداف اللجنة وسط امتعاض الأعضاء الآخرين واتهامها بعرقلة العمل، وفي خضم النقاشات حدثنا احد الأعضاء انه كان يعمل تدريسيا مع شيرين في إحدى الجامعات العربية عام 2004 وأنها اتخذت قرارا بحق إحدى الطالبات من ذوات النفوذ والسلطة ورفضت شيرين برغم جميع الضغوطات التنازل عنه وكان ثمن ذلك ان قدمت استقالتها من العمل وما زالت بلا وظيفة من العام 2004 لغاية الآن..
لم اصدق ما قاله الزميل حتى التفت الى شيرين وأجابت بابتسامة شجاعة أن الكلام صحيح وانها رغم خسارتها المال والوظيفة إلا أنها كسبت ذاتها ونفسها وان أصعب واشد واقسى انواع الخسارات خسارة الإنسان لنفسه حين يضعف ويتنازل عما تحمله هذه النفس من قيم لقاء مصلحة او ميزة عابرة.
مرت أيام وسنين ووجوه وشخصيات كثيرة وبقي اسما شيرين ورأفت عالقين في ذاكرتي استوحي منهما ما شئت من دروس الاستقامة واتخذهما مثلين رائعين لاحترام الذات وكسبها دون أن يعلما حتى ما تركاه في داخلي من اثر وربما لن يتسنى لهما حتى قراءة ما كتبته عن تجربتيهما في النزاهة والاستقامة.