دأب العلماء في علوم الإجتماع والنفس والإجرام على دراسة سلوك الجماعة مقارنة بسلوك الفرد والهدف من هذه الدراسات متنوع الغايات، فقد تكون الأهداف تربوية تساعد في وضع مناهج دراسية تنمي القدرات الذاتية والإبداع الفردي .. أو سياسية تهدف الى خلق وعي عام بالحقائق السياسية وأثرها على مستقبل الجماعة.أو أخلاقية تحدد المعايير والقيم الخلقية كما ينبغي ان تكون في العلاقات العامة، وبوجه عام ايجاد الحلول العلمية والعملية للكثير من الإشكالات الإجتماعية. وفي الاكاديميات العلمية العراقية طرحت ونوقشت العديد من البحوث والرسائل الجامعية بهذا الشأن ولكنها تترك على الرفوف عادة دون وضعها موضع النظر والتنفيذ.
وإذا كانت الجماعة هي عبارة عن تجمع أفراد، فإن سلوك الفرد في حياته وأموره الخاصة هي غير سلوكه عندما يكون عضوا في جماعة. بمعنى آخر إن التجمع يشكل خصائص جديدة تختلف عن خصائص الأفراد المكونين لهذه الجماعة فتأخذ أفكار ومشاعر أشخاص هذا التجمع شكلاً خاصاً واتجاهاً واحداً قد لا يكون منطقياً.
والعقل الجمعي عقل هابط لا يتصور فيه الذكاء العالي، ومع ذلك فإن المسألة نسبية تعتمد على نوعية الجماعة ولكنها تبقى قاصرة عن إدراك ذكاء كل فرد من الأفراد المكونين لها، فعندما يعود كبار السن من الموظفين على سبيل المثال الى مقاعد الدراسة في حلقة دراسية او دورة تطويرية ترى تصرفاتهم تقترب نوعاً ما من تصرفات الطلاب الشباب في المدارس.
إلا انه اذا كان لتلك الجماعة قائد أو زعيم مطاع فإنها ترتقي لمستوى قدراته من حيث مدى ذكائه أو إنحطاطه بالنتيجة.
والعقل الجمعي يعطي نتائج غير متوقعة في الغالب مادام بلا زعامة او كانت الزعامة هشة، فقد لوحظ مثلاً ان الإستفتاءات التي تجريها المؤسسات المتخصصة ووسائل الإعلام حول نتائج الإنتخابات المقبلة كثيرا ما تأتي بمفاجأت غير متوقعة، وهذا ما يعبر حقاً عن مدى استقلال الفرد وهو ينفرد بملء استمارة الإستبيان او مدى انقياده للعقل الجمعي وهو يتجه لصناديق الإقتراع.
وقد يكون لفرد واحد ان يغير من اتجاهات الرأي العام في لحظة هيجان او لحظة حاسمة، ومن الطريف إن احد المراتب الالمان في الحرب العالمية الثانية اشتكى لقائده ان احد الجنود الملتحقين حديثاً مرعوب جداً ويبكي بشدة كلما حصل قصف، وانه أثر على معنويات الجنود الآخرين المتحمسين للقتال أصلاً، فما كان من القائد إلا ان أمر بإعطائه اجازة مفتوحة لنهاية الحرب، قائلاً إن مثل هذا الجندي قادراً ان يرعب ويهزم أقوى جيش ينتمي إليه.
وهنا تكمن الإشكالية وخاصة في المجتمعات التي لم تصل بعد الى مرحلة الوعي الخاص المنضبط مع نفسه ومع الوعي العام مما يعطي نتيجة مأساوية هي نشوء زعامات إنتهازية تستغل العقل الجمعي البدائي والموروث الإجتماعي المعقد لتأكيد سيادة الجهل والجهلة على نتائج الإنتخابات وبالتالي على طبيعة الحكم والعملية السياسية بشكل عام دون تأثير يذكر للنخب المثقفة التي غالباً ما تفشل في الانتخابات نتيجة سيطرة العقل الجمعي المتخلف على توجهات الرأي العام.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن في العراق الآلاف من المثقفين والمتخصصين في مختلف المجالات العلمية والإنسانية، ولكن ماهو دورهم في التنوير الإجتماعي وفي العملية السياسية وفي نهضة البلد وإزدهاره وإيجال الحلول الناجعة لمشاكله المتراكمة المتفاقمة؟
من المسؤول عن استبعادهم هل هو العقل الجمعي أم الزعامات الإنتهازية أم إن الكثير من مثقفينا نأوا بأنفسهم عن العملية السياسية ترفعاً عن مظاهر الدجل والخداع البائس الذي يرافقها؟ في الواقع ان كل ماتقدم مسؤول بل إن ذلك يشكل علاقة سبب بنتيجة.
ما الحل؟ الحال ان مجتمعنا يعيش أزمة ثقافية متعددة الجوانب ولم تتمكن النخب المثقفة من إيجاد زعامة وطنية متنورة تتمكن من خلق خطاب سياسي وطني عام ومقنع قادر على خلق عقل جمعي متوازن الى حد ما، لتتمكن بالتالي من قيادة المجتمع وتوحيد صفوفه وبناء دولة مكتملة الأركان، ولن يشهد بلدنا نهضة قوية تتجاوزالواقع المزري الذي نعيشه اليوم إلا اذا تمكنت هذه القوى الثقافية من خلق وعي عام متنور يتجاوز النظرة الفردية الضيقة والمصالح الآنية....
إن الأجواء السياسية والإجتماعية العامة مهيئة اليوم لتقبل التغيير الشامل نتيجة التذمر الواضح من الاوضاع السياسية والاجتماعية والخدمية قبل ان يتمكن الانتهازيون من استغلالها لصالحهم بوعود براقة اثبتت التجارب زيفها وبطلانها.