ايام قليلة تفصلنا عن الذكرى الستين لثورة 14 تموز 1958 التي غيرت مجرى التاريخ السياسي العراقي من النظام الملكي الى الجمهوري بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم .
ان المتتبع للاحداث و المنصف في التحليل وعند تجميع صورة تلك الايام وخاصة اذا ما كان حيادياً في رؤياه فأنه يصل الى قناعة بأن هذا التغيير كانت البداية لنظام سياسي غير مستقر يتأرجح بين الانقلاب والتصفيات والمحاكم الخاصة و زج السجون بالمعارضين له فكرياً وسياسياً واقتيادهم الى المشانق في اكثر الاحيان , أي انه كان بعكس تطلعات الشعب العراقي في العيش الرغيد و ان كان النظام السياسي لاي بلد ينعكس طموحات شعبه (في غالبيته)
خضع العراق لمدة طويلة الى الهيمنة العثمانية ولكن على اثر الحرب العالمية الاولى تفككت و دخلت القوات البريطانية الى بغداد سنة 1917 حيث كان هذا التاريخ بداية لظهور الدولة العراقية الحديثة التي خضعت للانتداب البريطاني و من هناك كان الاستقلال هدفاً سامياً ينشده العراقيون و يسعون لنيله مهما كانت التضحيات مما دفعت بريطانيا الى ترشيح الملك فيصل الاول ملكاً على العراق ثم الملك غازي و اخيراً الملك فيصل الثاني بوصاية (عبدالاله) لصغر سنه.
شهد العراق تاريخاً سياسياً حافلاً بالتغييرات و الاحداث منذ تأسيسه الى اليوم و لكن اكثر ما نلقي الضوء عليه يتمثل في العهد الجمهوري و ماشهده من احداث و ماحمله من سمات رسمت الخارطة السياسية و تركت بصماتها و اثارها في النفوس و الرؤوس الى يومنا هذا .
لقد قاد الزعيم (عبدالكريم قاسم) احد الضباط الاحرار ثورة (14) تموز عام 1958 و استولى على السلطة وقامت مجموعته بتصفية رموز النظام الملكي في العراق و الغت القانون الاساسي (دستور العراق لعام 1925).
عليه يمكن تقسيم العهد الجمهوري في العراق الى ثلاثة مراحل :
- المرحلة الاولى من عام 1958 الى 1968 و من سماته :
أ – صدور اكبر عدد من الدساتير خلال عشرة اعوام كنتيجة حتمية لسرعة التغيير الحاصل في السلطة وانها تدل على ان الدساتير كان يصدرها السلطات دون الرجوع الى راي الشعب و من جانب اخر جعلت السلطات من هذه الدساتير أداة لفرض سيطرتها و قلعة حصينة لحماية نفسها و استمراريتها لأطول فترة زمنية ممكنة . فصدرت دستور عام 1958 و دستور 4 نيسان 1963 و دستور 29 نيسان 1964 و دستور 21/9/1968
- المرحلة الثانية تبدأ من عام 1968 وتولي حزب البعث لزمام السلطة و ا نيطت المهام الى مجلس قيادة الثورة و في عام 1970 صدر الدستور المؤقت على خطى الدساتير الاخرى التي صدرت بعد اسقاط النظام الملكي يحمل صفة التأقيت و بأختلافه عنهم بطول فترة نفاذه حيث ظل نافذاً الى سقوط النظام في 9/4/2003 .
- اما المرحلة الثالثة تبدأ من سقوط النظام في 9/4/2003 الى اليوم حيث شهد العراق مالا يتوقعه احد في الداخل و الخارج حيث عانت البلاد من فراغ سياسي و امني و اداري اذ انهارت مؤسسات النظام و قواته الامنية و العسكرية و عمت الفوضى البلاد الى حين تشكيل مجلس الحكم بأشراف امريكي ليحكم العراق و لأول مرة يكون التداول سلمياً و بعدها تم تشريع قانون ادارة الدولة العراقية الذي كان اساساً لصياغة دستوره لعام 2005 و اقراره من قبل الشعب في استفتاء شعبي ليكون النظام اتحادي تعددي ديمقراطي و نتيجة للظروف و الاحداث التي مرت بها العراق فأنها دفعت بمكوناتها بالتحالف بعيداً عما كان ينتظره او اقره المؤتمرات السابقة للمعارضة من بناء عراق ديمقراطي مدني تعددي فتم تأسيس تحالف شيعي ذات الاغلبية و تحالف سني و اخر كردستاني لأدارة الحكم على اساس التوافق و الشراكة الذي كان صالحاً لفترة معينة ليستعجل المكون الشيعي بأنتهاكه و التفرد بالحكم وفق مبدأ الاغلبية متناسياً كل الوعود التي قطعها على نفسه و سرعان ما بدأ التهميش و الاقصاء و الملاحقة القانونية سواء ضد السنة ام الاكراد .
ننتهي الى القول بأن حكم العراق و خاصة في عهده الجمهوري كان وفق الاهواء و النزوات و تطلعات من يمسك زمام السلطة و يحاول بكل ما لديه من قوة للبقاء على كرسي الحكم اطول مدة ممكنة ولو كان على حساب الحقوق و على اكتاف الشعب المسكين و بصورة عامة فأن الناظر الى التاريخ السياسي للعراق يلمس سمات تكاد تكون مشتركة او عامة و منها :
- سرعة التغيير في الحكم , نجزم قطعاً بأن ما شهده العراق من ثورات و انقلابات – مع ضرورة الاختلاف في مفهوم كل منهما – لم يشهده أي بلد في المنطقة برمتها فعلى سبيل المثال خلال عشر سنوات (1958 – 1968) حدثت اربع انقلابات ناجحة ناهيك عن محاولات الانقلاب الفاشلة و ان بقاء حزب البعث من 1968 الى 2003 على السلطة لا تعني باي شكل من الاشكال عدم وجود محاولات الانقلاب و لكنها كانت تموت قبل ان تلد و منها محاولة ناظم الكزار و الدجيل و غيرهما و كانت تجر وراءها الاعدامات و التصفيات و العيش خلف القضبان و ابشع انواع التعذيب و انتهاك حقوق الانسان .
- المفاوضات لكسب الوقت : بما ان العراق بلد متعدد الاعراق و القوميات ولم تستطع انظمة الحكم فيها من صهر هذه القوميات و المذاهب في بوتقة الدولة العراقية و التعامل معهم على اساس المواطنة و خاصة مع الشعب الكوردي الذي الحق قسراً بها بعد اتفاقية لوزان و ان مطالبة الكورد بحقوقهم القومية كانت تجابه بالحديد و النار من القتل و التدمير و الحرق و الابادات الجماعية لذا كانت الثورات و الانتفاضات الشعبية سمة الشعب الكوردي وطريقته في مواجهة طغيان من كان يحكم و كثيراً ما كانت تضطر الحكومات الى التفاوض معهم و لكن الصفة البارزة في هذه المفاوضات ان الحكومات كانت تلجأ اليها لكسب الوقت و امتصاص حماس الحركة التحررية الكوردستانية واعادة التنظيم و سرعان ما كانت تتنصل عن عهودها و ما قطعتها على نفسه و منها مفاوضات اعوام 1964 و 1970 و حتى مفاوضات عام 1992 بعد الانتفاضة الشعبية المباركة كانت تهدف الى قتل الوقت و انتهاز الفرصة للضرب ولكن التدخلات الدولية الانسانية لمساندة الشعب الكوردستاني حالت دون ذلك و حتى بعد 2003 سارت انظمة الحكم فيها على نفس الشاكلة و الاسلوب ...
- انشاء المحاكم الخاصة من السمات البارزة في العراق هي انشاء المحاكم الخاصة بمحاكمة رؤوس النظام السابق على اختلاف تسمياتها و تشكيلاتها و صلاحياتها بين محكمة الدولة او الشعب او الخاصة وانها تدل على عدم اكتفاء الانظمة بالمحاكم العادية و القوانين السارية و بعبارة ادق عدم ايمانها باجراءات احكام المحاكم العادية او انها لم تكن خاضعة لأوامرها كالمحاكم الخاصة الاستثنائية و التي غالباً ما كانت تنتهي بالاعدام و الاتهام بالخيانة و العمالة .
- التدخلات الدولية و الاقليمية كما هو معلوم بأن العراق اسس وفق المصالح الدولية و لتكون قنبلة موقوتة يمكن اشعالها في أي وقت لتنتشر نيرانها و تأكل الاخضر و اليابس في المنطقة برمتها لذا فأن القرار العراقي لم يكن حراً و مستقلاً الى الأن بل كان خاضعاً لضغوطات و تدخلات دولية حتى الانقلابات التي لم تكن تمر خططها بالسفارات الاجنبية وخاصة السفارة الامريكية والبريطانية كانت مصيرها الفشل و الاكثر منها فأن الحكومات العراقية كانت تلجأ الى الدول الاقليمية و الدولية لقمع شعبها منها الشعب الكوردي سواء بالاتفاق والتأمر او طلب المساعدة و حتى في حروبها لم تسلم من التدخل فمثلاً حربها مع اسرائيل 1967 و 1973 و الحرب العراقية الايرانية 1980 و غزوها للكويت 1990 كان دور التدخل الدولي ظاهراً للعيان . و حتى اليوم بات العراق ساحة للصراع الامريكي الايراني بالتدخل السافر في شؤونه كل حسب ماتمليه المصالح .
- الدساتير المؤقتة : إن جميع الدساتير الصادرة من عام 1958 الى 2003 كانت دساتير مؤقتة أي يغلب عليها صفة التأقيت وانها تدل على سرعة الصياغة و سرعة الاحداث وحصر الصلاحيات بيد فئة معينة، إلا ان دستور 2005 يختلف عنهم في الصياغة و اقرار النظام السياسي وتعريف الدولة العراقية .
نعتقد بأن ماذكر اعلاه هي اهم السمات البارزة العامة للعهد الجمهوري العراقي و ان كان هناك سمات اخرى مثل سيطرة العسكريين و التفرد بالسلطة و الاقصاء و التأمر و عدم الحيادية و لكننا نكتفي بهذا تجنباً للاطالة و الملل .