لن تخطئ العين والاذن ظاهرة طفقت تبرز وتتصاعد اقترنت مع التقدم الذي تحرزه القوى الأمنية العراقية في تصديها لتنظيم "داعش" الإرهابي واندحاره على أكثر من صعيد؛ وهذه الظاهرة تتمثل في تصاعد وتيرة النبرة العدوانية والخطاب المتشنج من قوى محسوبة على الأحزاب المتنفذة، ولاسيما ما يسمى بقوى الإسلام السياسي ضد توجهات لدى الرأي العام العراقي، عبرت وتعبر عن نفسها بممارسات سلمية شتى ومنها التظاهرات المتواصلة منذ مدة ليست بالقصيرة في بغداد والمحافظات احتجاجا على الفساد وسرقة الأموال العامة وانهيار الخدمات.
لم يحاول بعض قادة الأحزاب السياسية المحسوبين على التيار الإسلامي التي هي احزاب دينية في الاساس ان يشخصوا الخلل ويطرحوا بدائل لنمط حكمهم الخائب الذي سيطر بالمحاصصة الطائفية والدينية والقومية؛ الذي عمل على تغييب روح المواطنة وسيادة مظاهر الاثرة الشخصية على حساب المصلحة العامة، بل وحتى إذا تعرضت تلك المصلحة للانهيار التام وهو ما تحقق فعلا طيلة السنوات الماضية وأدى الى فقدان بوصلة الاتجاه السليم لإدارة شؤون الحكم والبلد.
بعض ممثلي تيار الإسلام السياسي يتهجمون على المطالبين بالدولة المدنية والاحتكام الى العلمانية بوصمهم بالإلحاد وهذا سوء فهم وفقر ثقافي وموسوعي لدى مثيريه بل هو غباوة حقيقية، فليس ثمت علاقة على الاطلاق بين العلمانية والالحاد، إذ العلمانية تعني ممارسة للحكم بفصل الدين عن الدولة؛ في حين ان الالحاد موقف شخصي لا علاقة له بمؤسسة الحكم مثلما ان الدين يمثل علاقة الانسان بربه الذي اساء له متدينون بإقحامه في كل شيء فأخرجوه عن تلك العلاقة الحميمة المفترضة.
يمكن القول انه كلما اقترب موعد الانتخابات فان نبرة الخطاب العدواني ستتصاعد مقترنة بالتهديد والوعيد فبعض القيادات الدينية السياسية بها حاجة الى خلق أعداء حتى اذا كانوا وهميين؛ لغرض التعويل على ذلك العداء لكسب أصوات الناخبين، ولاسيما اذا علمنا حالة الامية وكثير من صور التخلف التي ترسف فيها فئات واسعة من العراقيين التي من الممكن لخطاب متشنج مدع للورع والنزاهة والتقوى ان يحركهم باتجاه التصويت لصالح متقمصيه حتى اذ كان المتحقق من ادارتهم طيلة السنوات الأربع عشرة الماضية ضربا من العبث واللصوصية وانهيار الخدمات وتصاعد معدلات الفقر وغيرها من الكوارث في بلد يصنف من اغنى البلدان؛ اما البرامج الانتخابية التي يحتاج لها الناس التي تؤدي الى المعيشة الرخية الرغيدة فذلك امر وبصراحة، لا يخطر في بال كثير من قادة الأحزاب والقوى الدينية العراقية.
لا يفكر بعض قادة الإسلام السياسي العراقي في الاستفادة من عبر ودروس التاريخ وحتى القريب منها بدلاً من خلق العداء داخل المجتمع بين فئاته السكانية التي يتوجب السعي الى إعادة وشائجها الإنسانية، التي تعكرت طيلة عقود. فلينظروا الى التجربة التونسية في اقل تقدير وكيف ابتعدت حركة النهضة الإسلامية التي كانت تصنف على الإسلام السياسي المتطرف عن خطابها المتشنج، حتى انها تخلت عن الحكم برغم نيلها اعلى الأصوات في انتخابات سابقة؛ لحرصها بحسب ما صرح قياديو الحركة على تحقيق الوئام في المجتمع، ولاسيما بعد ان رأوا نتائج الخطابات المتطرفة للإسلام السياسي، وكيف أدى التحريض الديني السياسي الى قتل الابرياء من معارضيهم في الأفكار مثلما حدث للمفكر التونسي اليساري شكري بلعيد، الذي اغتيل في شباط عام 2013 بعد انتقاده طبيعة حكم الإسلام السياسي، وبمجرد اغتياله أعلنت حكومة حزب النهضة الإسلامية استقالتها في آذار من ذلك العام وجرى وضع مستقلين من خارج الأحزاب على رأس الوزارات السيادية. ومرة أخرى إثر اغتيال المعارض والنائب محمد البراهمي في 25 تموز 2013، استقالت حكومة القيادي في حزب النهضة علي العريض وجرى الإسراع بتكوين حكومة تكنوقراط جديدة بالكامل جميع وزراؤها من المستقلين عن الأحزاب.
أردنا من هذا المثل ابراز دور الحكمة والوطنية، حين أدركت مخاطر ما يجري فضلا عن اخفاق الحكومة في تلبية مطالب الناس وحل المشكلات الاقتصادية الحيوية؛ فجرى تغليب مصلحة البلد والشعب.
نقول هنا، ان العلمانية تحفظ لكل ذي حق حقه بل انها تشكل ضمانة للشعائر الدينية وحرية العبادات، فهي تنظم مؤسسات الدولة وتضمن حرية الجميع وحمايتهم بصرف النظر عن اديانهم وعقائدهم واتجاهاتهم الفكرية.
لقد رأينا في العراق المبتلى كيف يجري التفاخر بنتائج الأصوات من قبل بعض قادة الإسلام السياسي، وكيف تجري الاستهانة بأصوات الآخرين ومحاولة تحقيرهم والحط من شأنهم، وكأن النتيجة ستدوم لهم مدى الحياة، في حين انهم لم يحصلوا على اجماع ووصلوا الى السلطة التنفيذية بفضل النظام الانتخابي الفاشل الذي ثبت بالتجربة المريرة انه لا يلائم العراق، بل انه فُصل ليضمن نجاح الفئات الطائفية والدينية والقومية على وفق توجهاتها تلك وليس بحسب برامج وأهداف تقدمها للناس. لقد وصل امر التحريض على الآخر المعارض الى ان يدعو رئيس الوزراء في الدورة السابقة من قال انهم العلمانيين الى ترك البلد والعيش في بلدان أخرى وكأن العراق ملك "طابو" له، على وفق منطق اقصائي غريب، يراد توسيعه الآن ونشره لخلق مواجهة جديدة يرون انها ستأتي بهم مرة أخرى الى سدة الحكم، بعد افتضاح عقم خطابهم ورهاناتهم الطائفية وفشلهم المريع في إدارة وحل ازمات البلاد، لقد هدد رئس الوزراء السابق المعارضين المدنيين بنفيهم من البلاد وتناسى انه رجع الى البلد بفضل القوات الامريكية.
ولقد وصل به الامر حتى ابان حكمه في نيسان 2012 الى مهاجمة القوى المدنية والعلمانية بمجملها بجمعها مع الأفكار الالحادية وأفكار البعث المباد، متفاخراً ان فكر حزبه قد هزمها "جميعاً"؛ وهذا خلاف المنطق السياسي المطلوب من اعلى رجل في السلطة التنفيذية الذي يتوجب عليه توحيد الناس لا مهاجمتهم؛ لأنه من المفترض ولاسيما بعد تسلمه منصب رئاسة مجلس الوزراء ان يمثل جميع العراقيين وليس حزباً بعينه، مثلما نرى في طبيعة خطابات الفائزين في الدول المتحضرة وكيف يتكلمون باسم شعوبهم على اختلاف عقائدهم واحزابهم. بل ان رئيس الوزراء السابق وقف بالضد من دعوات الإصلاح التي ناشد المحتجون رئيس الحكومة الحالية حيدر العبادي بتنفيذها ضد الفساد والفاسدين ومن اجل الخدمات والعدالة، بالقول ان الإصلاح هو مؤامرة لإفشال المشروع الإسلامي، وزاد ان المجيء بحكومة تكنوقراط يريدون به إفشال المشروع الإسلامي وضرب المتدينين. بحسب ما صرح به في نيسان 2016. ولا نعرف ازاء خطاباتهم المتوترة ماذا تعني التسوية السياسة التي يتحدث عنها بعض هؤلاء القادة الإسلاميين!، او حتى الأغلبية السياسية التي يطالب بها بعضهم في ظل احتقار الأقلية والتهكم بها وهو امر ينافي مبادئ الديمقراطية.
وكي لا نطيل في عرض الموضوع نقول، ان احلال الخطاب الايديولوجي العقائدي المتشنج والعصابي بدلاً من الخطاب السياسي والانتخابي الذي يفترض به طرح برامج عملية تهم الناس ومعيشتهم، لن يخدم البلد والشعب ويضيف فشلا مضاعفاً الى الفشل المتحقق ويحرض على العنف ولن يكون جديرا بالحكم والبناء وهو في الحقيقة وجه آخر للتكفير الذي تقوم به قوى دينية متطرفة على صعيد المنطقة والعالم.