على مدى السنوات الماضية أثبت الشعب الكوردستاني أنه شعب حي يستطيع مواكبة العصر وتهيئة الظروف التي تجعله في مستوى الشعوب المتطورة، وهذا ما يشهد عليه التطور الحاصل في مختلف الميادين الاقتصادية والعمرانية والخدمية والعسكرية المتحضرة، ونجاحه في ميدان السياسة الخارجية وتوسيع نطاق بناء علاقاته الدولية على أساس المصالح المتبادلة والإحترام المتبادل، وفي كلام طبيعي يندرج ضمن سياق ما يمكن أن يحدث، وبمناسبة عيد نوروز والسنة الكوردية الجديدة، بعث نيجيرفان بارزاني، رئيس وزراء إقليم كوردستان، إشارات طمأنة إلى الجميع، حينما أكد على أن كوردستان ليست على حافة كارثة كما يتصور البعض، بل يمكننا من خلال حوار داخلي سليم، ومن خلال توحيد صفوفنا، المضي بكوردستان قدماً والاقتراب أكثر من مستقبل أبهى وأكثر ازدهاراً. وحينما قال: (أن تاريخ كوردستان اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يمر بمرحلة مخاض لولادة جديدة، وأن الحركة التحررية الكوردستانية والسلطة الكوردستانية بلغتا مرحلة لا يمكن فيها القضاء عليهما، لأن هذه السلطة هي ثمرة نضال البيشمركة وصمود شعب كوردستان). هذا التأكيد نابع من الإحساس بحالة الذعر التي إنتابت العديد من الأطراف العراقية بعد إجراء الاستفتاء، وبدأت صرخاتها بالرفض القاطع لنتائجه والاتفاق على خطط عمل لإفشاله، والموقف الأكثر تشدداً في الوقوف بوجه هذا الحق القومي وجدناه لدى أصدقاء وحلفاء الأمس، وعبر تصريحات نارية من شخصيات قيادية وصل بهم الأمر إلى لغة التهديد بإشعال حرب عربية كوردية دون أي إعتبار لحرمة دم الإنسان، ومن هذا المنطلق منحوا لأنفسهم الحق بالتدخل في الشأن الكوردستاني ومحاولة إلغاء الجغرافيا الكوردستانية والسيادة الكوردية وبالتالي تناسي دماء مئات الآلاف من الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل هذه السيادة. وما سمعناه من البعض من أقوال مسيئة أو ما سمعناه من أصداء لأقوال، وماقرأناه في الكثير من المواقع الألكترونية كآراء أو وجهات نظر أو تصريحات، خلال الشهور الستة الماضية، دلت على تجاوز خط الممنوعات والسعي الى إستغلال العقيدة ومصادرة الحقوق وتعميم الإنتقام والثأر بنفس طائفي وقومي وموروث نفسي تمتزج فيه عناصر الخرق والخوف والرعب والريبة، وكانت تهدف الى النيل من مقدساتنا غير القابلة للتنازل عنها، والإنتقاص من شكليات شعائرنا وسلوكياتنا وتصرّفاتنا الفردية والجماعية، وإنتهاك الأعراف والمعايير والقيم الإنسانية، وحاولت تعقيد الأفكار بهدف تعقيد الأوضاع لغايات تضمن الإبقاء على المشكلات ووصول العلاقات الى حدود القطيعة والكارثة التي تطال كل الأطراف، والتي تتطلب عقوداً لتناسيها، هذا إذا لم تتحول الى أحزان دائمية وخلافات تاريخية لانجني منها سوى الخراب والدمار والفتن. كما كانت تعبر عن الرغبة في هدم مشتركات المودة والتعايش والتفاهم بين أناس يتساكنون في بقعة أرض معينة أو يتجاورون، وبينهم علاقات التعاون والتصاهر والتراحم، وتعهدات وثيقة الصلة ومصالح متبادلة. لانريد أن نسترجع التصريحات والمقولات والكتابات المتشددة التي روجت لمعاداتنا، والمهمات السياسية التي تتطابق وتنسجم تماماً مع الشعارات الشوفينية، ولا نريد ان تكون خطواتنا مجانية، أو مرتبطة بمخاوف ورغبات الآخرين، لأننا لا نريد أن نوصد الأبواب بوجه التفاهمات مع كل الأطراف التي نتعامل معها بالمنطق الإستراتيجي البعيد عن التكتيك، ولأننا حريصون على عدم قطع الود مع أحد. ونمتلك رغبةً طبيعيةً للتكاتف والتواصل والتقارب مع الجميع لصيانة مصالحنا ومصالحهم. وهذه الرغبة عبر عنها رئيس حكومة الإقليم بشكل واضح وصريح، وأعاد الى الأذهان الوعي الكوردي الدائم الرافض للخلط بين تجاوزات وممارسات بغداد ضد الكورد، والعلاقات العربية – الكوردية. عندما قال:
(كيفما تكن العلاقات بين الحكومات، فإننا سنبقى أخوة للأبد)، مشيرا الى ان نضال الكورد لم ولن يشكل أي خطر أو تهديد على أية دولة. بل سيعود نجاح شعب كوردستان على جيرانه بالخير.
في أوقات الأزمات قواعد تظهر الحقائق جلية، وتكشف تصورات لم تكن ظاهرة للعيان، والتعجيل في معالجتها أفضل من بقائها تحت الرماد، والأزمة الأخيرة بين أربيل وبغداد ليست استثناءاً، ولكنها كبيرة وشديدة الوقع. ولقاءات نيجيرفان بارزاني مع حيدر العبادي حقّقت التقدم (القليل) الذي يسمح بطي صفحة الماضي، وساهمت في تحقيق حدّ أدنى من الإستقرار في المناطق التي تسمى في الدستور بالمناطق المتنازع عليها. ويمكن لها أن تسهم في حل المشكلات السياسية الأساسية، وتحسين أوضاع البلاد وإدارتها، وإستيعاب نتائج فوران العواطف وقوة الصدمات، لإن العقلاء، وهم كثيرون، يرجون من صميم قلوبهم أن تصل الأمور إلى خواتيم سريعة وتوافقية جامعة وإيجابية، والمضي نحو الإستقرار الذي نتطلع إليه جميعاً.