بعد سنين غربة عدت إلى بيتنا القديم ، ذلك البيت الذي أمضيت فيه أجمل أيام حياتي .. تلك الأيام  الحميمية  المحملة بالطيبةِ والبساطة، قبل دخولي تأملت شكله من الخارج ، وعادت بي الذاكرة إلى  مراحل حياتي التي عشتها داخل هذا البيت القديم، فتحت الباب الخارجي بعد أن كسرت قفله المتصدئ، ودخلت عبر ممر المنزل الطويل الذي تحذوه ساحة كانت في الماضي حديقة ممتلئة بانواع الاشجار المثمرة وورود الجوري بألوانها البهية،  لم يتبق منها الآن سوى ترابٍ متصلبٍ قاحل.

مشيت قليلاً حتى وصلت الباب الخشبي القديم  ، فتحتهُ بمفتاحٍ مازلتُ أحتفظ به ، دخلت إذا بجدران المنزل مُتهالكة لا تصلح للسكن ، وقد غطى التراب اثاثه وارضيته وشبابيكه الحديدية ،  وخيوط العنكبوت منتشرة بزوايا وسقوف الغرف، وسط هذا الخواء  إرتدّت الذاكرة إلى الماضي وكأنها تحاول تزويق هذا الواقع الكئيب عادت بي  لتستحضر صورة أمي، تلك الأُم التي تقطر عذوبة وحنانا لم أصادف إمراة مثلها في حياتي ، كم كانت حريصة على تربيتنا، تتعب نفسها لتوفير متطلباتنا اليومية وكل مانحتاجه ، لكنها في الوقت نفسه تحملُ شخصية قوية وحرصاً شديداً علينا،  كانت تهتم  بأدق التفاصيل ،، وكانت نظافة المنزل من أولويات إهتمامها ليقينها أنه الجنة التي تلوذ بها العائلة من متاعب الحياة اليومية،  فتحاول أن تضفي عليه لمساتٍ بسيطةٍ لتجعلهُ جميلاً متجدداً .

للحظةٍ وأنا أتنقل من مكانٍ لآخر ، تذكرتُ صيحات أمي وهي توجه لنا وابلاً من الانتقادات  بعصبية  : لا تدخلون البيت باحذيتكم (خليل ذب حذاءك برة ترة اگطعك اتگطع ) ،،،

- ماهذا البيت الذي لايطاق لقد بعثر فيه كل شيء ( البيت مكركب وهوسة شلون بيه ياربي ) ، ، 

- لاتتحركوا وانا امسح البيت ادخلوا غرفكم وراجعوا - دروسكم  ( يمعودين لاتظلون رايحين جايين اكعدو اقرو  ) ،،

وغيرها من التوجيهات التي حفظنا كلماتها لكثرة تكرارها علينا كل يوم  ..

كم  اشتقت لذلك الصوت الذي كان يزعجني ، والذي كنتُ أشعر بأن أمي تحاسبني من خلاله بمناسبة وغير مناسبة ،، 

إشتقتُ لطيبة والدي الوسيم الهادئ الذي كان يدخل علينا عائداً من عملهِ  كل يوم  محملاً باكياسٍ ورقية مليئة بما لذ وطاب من الفواكه والحلوى ، نحرص للتعرف على مابداخلها  ونتلقفها بكل فرح ، كنا نحتار انا واخوتي ، ما بين إبتسامة والدي الذي كان يعبّر عن سعادتهِ كلما رآنا مجتمعين حوله ، وصراخ أمي وعصبيتها التي تحاول دائما أن تعودنا على النظام ، لنبتعد عن المكان ونعود إلى دروسنا ونتركها تعمل بعدما ندرك إنها ماعادت تتحمل هذا التجمع غير المرغوب فيه وربما تعاقبنا فيما لو بقينا حولها

توجهتُ إلى غرفتي في الطابق العلوي كان فيها شباك أحب النظر من خلاله لإنه يطل على شارع الحي باكمله ، مازال زجاجه قائماً لم يتكسر ، تذكرت كيف كنت أرسم على سطحهِ وردة وأحياناً قلب صغير ، لاسيما في ايام الشتاء الباردة  ، أحياناً أمسح مارسمته باصابعي كي أرى من خلالهِ المارة  والدكاكين الصغيرة وإنارات الأعمدة التي كانت تمتد على طول الشارع .

كنتُ أقضي يومي في غرفتي الصغيرة ،، العب مع شقيقي الاصغر ، واطالع دروسي ، وأُمارس هواياتي وأنجز أعمالي الأخرى ،، مازالت تلك الغرفة تحمل رائحة الأمس وتحتوي مقتنياتي القديمة ، سريري ، دولاب ملابسي ، كلها موجودة ولم تتغير سوى إنها أصبحت "انتيكة" لا تواكب جمال وأناقة أثاث الحاضر  ،، 

وأنا غارق في  تلك الذكريات بتفاصيلها الأثيرة ، تناهى إلى سمعي  صوت أمي العذب ، وهي تناديني بأعلى صوتها :- (خليل خليل  وينك ، تعال أتعشى وليدي ) .