تحاول منظومة خطيرة متكاملة من اللصوص والفاسدين الحكوميين تساندهم في ذلك مصالح دول اقليمية الابقاء على مشكلة الكهرباء قائمة في العراق من دون حل الى ابعد مدى ولربما أبدا. وقد أضيف الى الكارثة منذ أسابيع انقطاع الماء الصالح للشرب، اذ اختفى الماء عن مناطق عدة في العاصمة بغداد كليًا ويظهر اننا بانتظار مآس اخرى لاحقة.
هي ليست نظرية مؤامرة تفتقت في اذهاننا على حين غرة، بل هو واقع مرير تكرس وتجذر في خضم انهيار شامل للقيم الانسانية والمهنية لدى مجمل الطبقة السياسية الحاكمة منذ نيسان 2003.
ممثلو تلك الطبقة وهم العامل الداخلي المسبب لهزيمتنا؛ غير معنيين بحل مشكلات الناس وفي طليعتها قضية توفير الكهرباء لأنهم اصلا لا يعانون من مأزقها بعد ان احتازوا لأنفسهم اماكن تتمتع بألطف درجات الحرارة صيفاً وشتاءً فضلا عن ان كثيرا منهم تركوا عائلاتهم وابناءهم في بلدان اخرى تتوفر فيها أرقى متطلبات الحياة، وانشغلوا هنا بجمع الأموال التي توفرها لهم خزينة الدولة من دون ان يبذلوا جهداً.
اما العامل الخارجي المتمثل بدول جوار العراق فانه يسعى الى تحطيم كهرباء العراق حفظاً لمصالح تلك البلدان الاقتصادية؛ فهم يوردون لنا كل شيء حتى الحاجات التافهة التي لا قيمة لها وسندهم في ذلك مصانعنا المتوقفة التي تشكل الكهرباء أحد روافدها الرئيسة.
يبرز المسؤولون عن توفير الكهرباء وعن الطاقة ولاسيما من وزارتها مع كل تحسن في الطقس في أشهر معينة من السنة ليطلقوا العنان لألسنتهم بالحديث عن جهودهم الجبارة التي وفرت الكهرباء في شهر آذار، ومتطرقين الى الصيانة التي ستجري في مايس ليتمتع الناس بكهرباء على مدار الساعة في حزيران وتموز وآب اللهاب؛ ثم وابتداء من اول يوم في حزيران تتكشف أكذوبتهم الكبرى ويصابون بالخرس فيختفون حينئذ عن وسائل الاعلام وتنعقد السنتهم ويعتكفون في رحلة الصيف القاسية على الناس، متمتعين بمكيفاتهم الخاصة التي لن يشملها القطع المبرمج ولا الصيانة الخريفية او الربيعية؛ يخفون انفسهم تزامناً مع انقطاع الكهرباء المدمر، اما السياسيون فيشدون الرحال حيث عائلاتهم في بلدانهم الأخرى التي تمنحهم جنسياتها وايضا من دون وجه حق.
كان أحد المسؤولين الكهربائيين ولا يستحق حتى ان نذكر اسمه قد أطلق العنان لنشوته بالحديث عن تصدير الكهرباء العراقية الى الخارج بعد ان يفيض منها الكثير؛ قال ذلك في عام 2012 على اعتبار انه سيصدرها في 2013 فانتكست الخدمة في السنوات اللاحقة أكثر من السابق؛ فأي خديعة أكبر من هذه.
لقد أضيفت هذه الأيام الى مشكلات الناس المتفاقمة شحة كبيرة في ضخ ماء الشرب الى المنازل في كثير من مناطق العاصمة بغداد وكأننا لسنا بلد النهرين الذي يتوفر ماؤه بمحاذاة مساكن الناس فأصبح الحديث الذي صدعوا رؤوسنا به عن مشروع ماء الرصافة الكبير الذي قالوا انهم أكملوه في حزيران 2016 مجرد نكتة سمجة؛ فاذا كانوا انجزوه فأين يذهب الماء يا ترى، لاسيما ان كثيرا من المناطق التي يفترض ان يخدمها المشروع تقع في الرصافة بالتحديد وتعاني الآن من الانقطاع الكامل لماء الشرب، ويقيناً فان العبرة بالنتائج وليست مقدماتها.
المثير في الامر ان كل طرف يلقي بالمسؤولية في تلك الكوارث على الطرف الآخر بكلام مجاني في تسويغ لفشلهم الشامل، في ظل انعدام أي محاسبة للمسؤولين المهملين في أداء مسؤولياتهم ومتطلبات وظائفهم لقاء رواتبهم التي يتسلمونها، مثلما تفعل الدول التي تحكمها القوانين، وحق لنا ان نردد هنا العبارة المعروفة: من أمن العقاب اساء...، فقد نقلت لنا الاخبار ان وزير الكهرباء التقى أمينة بغداد وبحث معها تجهيز الطاقة الكهربائية لمشاريع إنتاج الماء الصافي في بغداد. وتطرقوا الى التجاوزات بصفتها السبب الرئيس لمشكلتي الكهرباء والماء، قالوا ذلك وكأنهم اكتشفوا لنا جديدا! الطريف ان وزير الكهرباء الذي فشل في اداء وظيفته تزويد الناس بحاجتهم الى الكهرباء يطلب من فاشل آخر هو امينة بغداد حل مشكلته في حين انها لم تفلح حتى في رفع القمامة المتكدسة في شوارع ومناطق بغداد، ناهيك عن مشروع قناة الجيش الذي سرقوا أمواله وتحول الآن الى مكب للنفايات ومخلفات البناء، فمن يستجدي ممن؟
وبحسب وزير الكهرباء، ان "التجاوزات الكثيرة على الخطوط المستثناة من القطع المبرمج من المواطنين والمجمعات السكنية والتجارية، التي يشترك فيها عدد من منتسبي هذه المواقع دفع وزارة الكهرباء الى شمول جميع مشاريع إنتاج الماء الصافي في جانبي الكرخ الرصافة ببرمجة خاصة ودعاها الى العمل على رفع التجاوزات"، بحسب بيان للوزارة. وجرياً على عادة النظام الفاسد القائم وحنكته في تأليف اللجان، جرى الاتفاق على "تشكيل لجنة فنية مشتركة من وزارة الكهرباء وامانة بغداد تبدأ عملها ميدانياً ستقوم بتحديد الاحتياج الفعلي لمضخات واجهزة مشاريع الماء الصافي والصرف الصحي، بناءً على قدراتها التصميمية" على وفق البيان، ونحن لن نعرف قطعاً متى تظهر نتائج اللجنة، ربما في الخريف المقبل عندما يتحسن الطقس فتقل الحاجة الى الماء والكهرباء كليهما.
صحيح ان هنالك تجاوزات من بعض السكان وعدم إحساس بالمسؤولية ولكن مسؤولية الدولة تظل بالنتيجة هي الحَكَم، اذ ان التجاوزات تعالج حتماً بالأداء الحكومي السليم والحرص على مصالح الناس وبخلاف ذلك ليس بمقدور أي أحد اجتثاث التجاوزات.
في الحقيقة ان الوضع العراقي يعيش معادلة ناقصة وحلقة بل حلقات مفقودة، فمن جانب يتصرف المسؤولون بعنجهية فائقة وبغرور برغم فشلهم الذريع والانهيار في الامن والخدمات والاقتصاد، ومن الجهة الأخرى نرى صمتاً مريباً من الناس وتهرباً من المطالبة بحقوقهم والاكتفاء بالحديث المتشنج العام في الشارع ومركبات النقل ضد الحكومة من دون النزول الفعلي الى الشارع والاحتجاج والمطالبة بالحقوق وانتزاعها من حكومات خائبة؛ بعد ان تحولت حتى الحاجات الأساسية الأولية ومنها الماء والكهرباء الى حقوق! ولربما يتحول ايضاً الهواء النقي الى مطلب بعد ان لوثت الطبقة السياسية الحاكمة كل شيء ولم تبقي لنا أي نقاوة.