مرت الأيام العشرة الأولى من الشهر الفضيل وأُتيحت ليّ فرصة البقاء في النجف الأشرف. ورغم أنني قصدتها للتشرف بالزيارة، إلا أنني حضرت بعض اللقاءات العلمية لعرض موضوعات الحوزة العلمية، كما التقيت وتحدثت مع بعض الطلبة والعلماء والأساتذة فيها واستفدت من معارفهم.
ولو أردت الحديث عن "كيف رأيت النجف؟" هناك أشياء كثيرة يمكن كتابتها، ولكن من بينها كلها سأقتصر على ذكر نقطتين أكثر أهمية بالنسبة لنا نحن طلاب قم:
استقلال الحوزة:
حوزة النجف حوزة مستقلة تماماً، ولا تخضع إلا لإشراف المرجعية الدينية، ولا يمكن للمؤسسات الحكومية أن يكون لها أي تدخل فيها. ليس فقط وزارة العلوم أو إدارة المعلومات والأمن لا تتدخل، ولكن وزارة الداخلية أيضا بالنسبة للطلاب الذين يأتون من دول أخرى و يعتزمون الحصول على الإقامة، وفوق كل ذلك، لم تكتف المرجعية بعدم السماح للحكومة بتقديم المساعدات المالية لهم، بل أوقفت إدارة الأوقاف ايضا للطلبة.
في العراق، يخضع الوقف الشيعي لإشراف المرجعية ومن حيث الإدارة فهو مستقل عن الحكومة، لكن آية الله السيستاني لم يسمح بوصول دخل الوقف إلى الحوزة.
قبل سنوات قليلة كان رئيس الوقف الشيعي السيد حسين الشامي أحد علماء الحوزة العلمية، وقرر استخدام الوقف لمساعدة الحوزات العلمية والطلبة، إلا أن هذه الخطة قوبلت بالرفض بسبب معارضة آية الله. السيستاني. ورغم أن هذا الإجراء يعيق نمو الحوزة، إلا أنه يزيد من قوة أركانها.
وتصر حوزة النجف على الحفاظ على استقلال الحوزات الأخرى الواقعة في نطاق نفوذها وتعتبر وصول أي مساعدات مالية وسيلة للتأثير والتدخل في شؤون الحوزة. لذلك، عندما قرر الوقف الشيعي في البحرين -الذي يخضع لإشراف بعض مشاهير الشيعة- مساعدة الطلاب وزيادة رسومهم الدراسية بنحو الضعف، قام آية الله الفياض بتحريم ذلك بشكل صريح.
بالطبع غالباً ما يواجه الطلبة الضائقة في الحوزة، خاصة فيما يتعلق بالسكن، لكن سياسة المرجعية، هي سياسة الحفاظ على وجود الحوزة تكون على حساب تحمل المشاق، لدرجة أنه إذا انخرط الطالب في أحد المعاهد البحثية مثل العتبة الحسينية، ولو بدوام جزئي إذا تم استخدامه، فإن آية الله السيستاني يقطع منحته الشهرية
ويصر زعماء النجف على هذه السياسة ويعانون من انزعاج الطلاب ويدركون تماماً وضع الحوزات العلمية في إيران وعواقب التدخل والنفوذ في الحوزة العلمية، وهذه التجربة زادت من يقظتهم وبصيرتهم.
ورغم أن حوزة النجف تخضع لإشراف المرجعية وتتصرف بعناية في قبول الطلاب وامتحاناتهم، إلا أن الطلاب يتمتعون بالحرية الكاملة في العلوم والسياسة، بل ولهم الحرية في وضع مناهجهم الدراسية الخاصة بهم.
التعددية والتنوع
حوزة النجف حوزة متنوعة ذات أذواق فكرية واجتماعية وسياسية مختلفة: البعض مع الفلسفة والبعض ضدها، والبعض مع التقريب والبعض ضده، والبعض مع الإسلام السياسي والبعض الآخر ضده، وبعض وبعض... طبعاً كلهم أيضاً، لديهم منبر ومساحة مناسبة لعقد اجتماعاتهم وطرح آرائهم، وفي هذه الأثناء المرجعية لا تقيد الساحة بأي تحرك وتتجنب اتخاذ موقف ضد الآخرين.
حرية الإعلام والأطروحات
الإعلام هناك حر، ويمكن لأي شخص وأي تيار أن يكون له إعلام وأن يصل صوته إلى جمهوره عبر القنوات الفضائية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن طرح الرسالة حر أيضاً، فلا أحد يمنع المجتهد الذي يريد أن يطرح رسالة ولا ينفي أهليته أو يمنع نشر رسالته.
حرية التدريس
الفضلاء في النجف يتمتعون بحرية التدريس على مستويات مختلفة، ولا يحتاج أي أستاذ إلى موافقة وترخيص من أي سلطة للتدريس، ولا يتم استبعاد أي أستاذ.
وفي حوزة النجف لا توجد دائرة إحصاء وتحقيق أو محكمة خاصة، ولا يتم استدعاء أي أستاذ أو طالب لآراء معارضة.
لا يتم تشجيع الطلاب بشكل مباشر أو غير مباشر على حضور دروس معينة أو عدم حضور دروس أخرى.
حرية المرجعية
ولهذا السبب، في حوزة النجف، لا يستطيع تيار فكري أو سياسي أن يقرر مستقبل السلطة، على سبيل المثال، الترويج لخيار واحد أو منع طرح بعض الخيارات الأخرى.
مرجعية النجف هي المرجعية الناشئة عن الخلفية العلمية والورعية في المجال، وهي معروفة بطبيعة الحال بين علماء الحوزة والشيعة، ومن أراد أن يصل إلى هذا المنصب عبر طريق آخر، فلن يحظى بدعم الحوزة.
هنا لا توجد جماعة مستقلة بذاتها تتمتع بامتياز خاص وبتأثير بعض الشخصيات السياسية من الخارج ومع ضجة بعض مناصريها من الداخل، تقوم بغلق واعلان قائمة المراجع ونتيجة لذلك تستبعد بعض من أقدم الفقهاء أو أفضلهم.
وهنا، لا يجرؤ الخطيب جمعة على الدخول إلى ميدان المرجعية واتخاذ موقف ضد شخصية، فيخطئ أحدا ويطلق على الآخر اسم الإنجليزي! ولا يمكن لأي شخص أو مجموعة تتوهم أنها زعيمة أن تعلن عدم أهلية فقيه لديه رسالة ومقلدين، أو أن تحيل فقهاء معروفين على التقاعد بسبب مواقفهم السياسية.
حرية الاتصال
في النجف، لأن الاعلام يتمتع بالحرية، ولا يتم فلترة او الرقابة على التلغرام والواتساب واليوتيوب وغيرها ويمكن الوصول إليها بسهولة، لذلك تستخدم الحوزة طاقتهم لتطوير الدروس العلمية والأبحاث الحوزية، وتؤثر هذه الحرية على الحيوية العلمية وتوسيع الخدمات التعليمية و يزيد من مستوى المعرفة.
على سبيل المثال، لدى العتبة العلوية صفحة على اليوتيوب وتقوم بتحميل دروس فقهاء بارزين في الحوزة، مثل الشيخ محمد هادي آل شيخ راضي والشيخ باقر الإيرواني. بالإضافة إلى ذلك، يستخدم أساتذة الحوزة المشهورون هذه الشبكات المجانية لتقديم مناقشاتهم الحوزوية (مثل السيد منير الخباز والشيخ محمد سند)، وأحياناً يتابع صفحتهم على اليوتيوب حشد من مئات الآلاف من الأشخاص! وبسبب هذه الحرية وغياب الفلترة او الرقابة تستطيع حوزة النجف إيصال رسالتها إلى العالم الإسلامي والتواصل مع كل من يهمه الأمر.
-------------------
محمد سروش محلاتي فقيه مسلم شيعي وباحث ديني معاصر(من مواليد 1961م في محافظة مركزي - مدينة محلات التي تبعد مسافة 252 كيلومتراً من العاصمة الايرانية طهران).
ترجمة شفق نيوز