تشكل حرية التعبير عن الرأي مفصلية ذاتية مهمة لم تأت اعتباطا بالمنة والمنح وإنما كانت قرينة الموقف والايمان اضطرت البشريةً الى تقديم قرابين كبيرة وكثيرة للحصول عليها وممارستها والسعي لديمومة وجودها من خلال تحصينها بالإلزام القانوني عبر النص عليها في القوانين والدساتير الداخلية والمواثيق والاتفاقيات والمعاهدات الدولية كخطوات مستقبلية باتجاه الامام حيث تتحقق الانسانية.
فالإنسانية وان كانت هي النقص كما يراها الثائر (نيلسون مانديلا ) لكنها الحرية واذا كانت الحرية هي نسخية العدالة فالعدالة هي الحقيقة المتحركة حسب رؤية (جوزيف جوبير) واذا كان هناك من تجسيد موضوعي للعدالة وتطبيقها فان القاضي العادل هو صورتها والناطق الرسمي لها، لكنه يظل في الكثير منه ضمن المساحة الشخصية التي ترتبط بالراهن واليومي وتخضع للرؤى الفردية والامزجة النفسية، وبالخلاصة هو نتاج اجتماعي لبيئة لها خصائصها وصفاتها وهو كائن يدخل ضمن التأثر والتأثير فيها وهذه المنظومة الاجتماعية تمنحه الحق بان يكون له رأي بل ان ما يبديه بحسب المميزات التي يتمتع بها يقترب من الالزام والتسليم من قبل الآخر.
والسؤال الذي يطرح نفسه في مناخات الحرية والتعبير عن الرأي ما مدى حرية القاضي في التعبير عن رأيه الشخصي بمختلف مجالات الحياة مسلمين بان الرأي الشخصي للقاضي بمناسبة النزاع المعروض امامه لا يعول عليه عند إصداره للقرار القضائي وكذلك الرأي المسبق الذي يبديه في النزاع قبل ان يكون متصديا له لان بناء قراره القضائي على العلم الشخصي وإبداء الرأي المسبق المعروف لدى الآخرين ومنهم أطراف النزاع يجرح العدالة التي يتمتع بها وهو امر تم النص عليه إلزاما في قانون الإثبات والمرافعات المدنية..؟ لكننا نقصد الرأي الذي يبديه القاضي في مجالات الحياة المختلفة كأحد افراد المجتمع، فهل يتمتع بالإباحة المطلقة في التعبير اللهم إلا في حدود حرية الآخرين والتجاوز على حقوقهم المثبتة دستوريا وقانونياً ام لا..؟
لقد ضمنت المواثيق واللوائح القانونية الدولية للقاضي الحرية في التعبير عن رأيه لكنها حرية مقيدة فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الفصل الثامن منه على أنه يحق لأعضاء السلطة القضائية، شأنهم في ذلك شأن المواطنين الآخرين، التمتع بحرية التعبير والاعتقاد والانتساب والتجمع، شريطة أن يتصرف القضاة دائماً في ممارستهم لهذه الحقوق على نحو يحافظ على هيبة ووقار مناصبهم وعلى نزاهة واستقلال السلطة القضائية، ولم يخرج الميثاق الأوروبي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة الذي تم إقراره من طرف مجلس أوروبا على ذلك، فقد نص على وجوب امتناع القضاة عن أي فعل أو سلوك أو تعبير من شأنه أن يؤثر على الثقة في حيادهم أو استقلالهم، أما مبادئ (مجلس بيرغ) بشأن استقلال السلطة القضائية الدولية، فقد اكد أن القضاة يتمتعون بحرية التعبير وتكوين الرابطات أثناء توليهم منصب القضاء بطريقة لا تتعارض مع مهامهم الوظيفية أوقد تنال من حياد ونزاهة القضاء، وأنه يتعين عليهم أن يكونوا متحفظين في التعليق على الاحكام أو أي مشاريع أو مقترحات أو موضوع متنازع عليه، ويتخذون مسلكا يحفظ هيبة منصبهم ونزاهة واستقلال القضاء.
أما وثيقة مبادئ بنغالور بشأن السلوك القضائي، فقد نصت على أن للقاضي كأي مواطن عادي الحق في حرية التعبير بما لا يتعارض مع أحكام القانون ومع واجباته الوظيفية وبطريقة يحافظ بها على هيبة الوظيفة ونزاهة القضاء فلا يجوز للقضاة الإدلاء بتصريحات سياسية أو المشاركة في تظاهرات من هذا النوع ولا يجوز أيضا للقضاة التشكيك في نزاهة السلطة القضائية واستقلاليتها كما أصدر المجلس الأعلى للقضاء الفرنسي سنة 2010 ميثاقا يتعلق بمدونة السلوك القضائي تضمن التأكيد على الالتزامات الأخلاقية للقضاة، جاء فيه، (أن القاضي ملزم بالحفاظ على صورة العدالة ويجب عليه دائما، أن يعطي المثال والقدوة على الاحتراز، أثناء ممارسته لحقه في التعبير، وذلك من أجل عدم تعريض نزاهة وصورة العدالة ومصداقيتها للثقة العامة، ويمنع عليه أيضا انتقاد الأحكام والقرارات التي يصدرها زملاؤه، كما يتعين عليه استحضار هذه الضوابط والالتزامات أثناء إصداره لمذكراته الخاصة بمساره المهني، ومنع الميثاق على القضاة إبداء أي مظاهر عدائية ضد الحكومة، أو القيام بتصرفات ذات طبيعة سياسية تتعارض مع واجب التحفظ المفروض عليهم، لكنه من جهة أخرى، نص على أن واجب التحفظ لا يشمل منع القضاة من المشاركة في إعداد النصوص القانونية وتحليل مقتضياتها بكل حرية. فحرية التعبير الخاصة بالقضاة ليست مطلقة، وأنه إذا كان للقاضي الحرية الكاملة لإبداء رأيه، فإنه يتعين عليه دائما أن يستحضر مبدأ الحياد، وأن يكون حذرا أثناء التعبير عن رأيه بشكل لا يظهر موقفه من القضايا التي تكون محل نزاع، كما يتعين أن يتحلى بواجب التحفظ في تعامله مع وسائل الإعلام، ويمنع عليه التعليق على قراراته حتى ولو تم انتقادها من طرف الصحافة أو تم إلغاؤها من طرف المحكمة الأعلى درجة.
ولم يكن الدستور العراقي بعيدا عن رؤى المفاهيم والمواثيق الدولية فقد نص في باب الحقوق والحريات الفصل الأول (الحقوق) وفي الفرع الأول -الحقوق المدنية والسياسية- المادة (14) التي نصت على ان (العراقيين متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او الدين او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي ) وان لكل فرد الحق في الحياة والامن والحرية ولا يجوز الحرمان منها او تقييدها الا وفقا للقانون او بناء على قرار جهة قضائية مختصة بحسب المادة (15) من الدستور ولكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الاخرين والآداب العامة كما جاء في المادة (17) ايضا ً، وفي باب الحريات في الفصل الثاني اعتبرت المادة (37/ اولا ً/أ ) من الدستور(حرية الانسان وكرامته مصونه ) وفي المادة (38) تكفلت الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.