دجلة
هناك على ضفاف دجلة، قرب الجسر العتيق وقف حاملاّ روحه على كفيه، ينظر الى النوارس وهي تحلّق بحذر على وجه النهر المصاب بهستيريا الموت والحيرة والقلق، لايدري كيف يغتسل من أدران التاريخ الحديث وهو يراقب تدفق النهر بطيئاً حد الوجع، كسلحفاة تحمل على ظهرها أطناب العابرين الملثمين بأوشحة السذاجة والغل وبغرائز الحيوانات البرية العابثة بهدأة الحياة في هذه المدينة المكبّلة بأصفاد لها أنياب حادة تفتك بما تبقى للحلم والسلام.

أسند صمته المتعب على إزار الذكريات فتوثب غراب أبقعٌ قبالته، أطلق نعيقاً مدوياً في المكان، ففاضت الضفاف من شدّة الهلع وتدافعت أمواج النهر هرباً من المكان.

 

ابواب متفرقة

 

 بلدة مغمسة برحيق العسل ، تتهافت الحيوانات عليها من مختلف البقاع ، نهر مطرز بالوان السماء ، طافح باسماك ذهبية يتدافع الصيادون عليها فهي وليمة المساء الشهية ، خراب يعم ازقتها، يفتك بابتسامتها ، والمارون يلطخون بياضها بسواد نواياهم ، بلدة تأكل ابنائها ، ليس للمنتهى باب واحد بل ابواب متفرقة، وقلبها يباب قاحل. او يكاد يكون

 

هذيان اخر

 

تبرأ ملامح الحياة من الوجه الشاحب لها، تضج باللاءات المصاحبة لتفانيها اللا منطقي لكل هذا الوأد المهيمن على فعاليات الفكر في انحاء التفاصيل، هذا الفكر المسكين الذي يرضخ لمطارق المشاغبين حد الوأد الثانية، كل القردة المهللين يعنّفون بعضهم ويطلقون على شتاتهم المضللة الفاظاً نابية، وجوه ممسوخة متشابكة ببعضها تقترف العهر ليل نهار على مرأى ومسمع من المجرة، تلقّح الكون برائحتها المقيتة، تدفع بالآخرين الصامتين الى الجنون، تسارع نبض الكون يلقيهم في مهب القلقلة، يدفعهم الى حافات الضياع، والفارعون جهلاً يعبرون باقدامهم المتسخة على اشلاء البياض.

تصدأ الأصوات من شدّة الكذب المنمق التي تحاول اعادة تشكيل الوقت وتقويضه وافراغه من محتواه، تخرّ الجباه المصاحبة لها لقساوة المشي تحت ظلال المطر الأسود، زعيقها يزكم القلوب، يلونها بالسواد، يدهنها بالموت، يباغتها بسهام الطنين المخادعة ، تلعثمها يسقي اللحظة أشربة الضياع والحيرة ليرقص الثمل على اكتاف الحياة رقصة التوحش، العيون التي كانت تراود الجمال عن نفسها اصيبت بالرمد، يبوح العقل بأسرار وأده في أودية الجهل، للمدى الممتد حتى اعماق الروح دون وازع من خوف.

 

خوف بربري

 

تتحرك الصور الملقاة منذ زمن بعيد في ذاكرتي بتؤدة ، كأنها تخشى اعتلاء عتبة التكرار بعد أن ذاقت مرارته كثيرا، فهي ممتلكات خاصة بإنسان انطوائي عانى الأمرّين طوال حياته المعصوبة بوشاح الخيال الجامح، الطنين الصاخب يحفر بمخالبه جدار عقلي، زعماء الأرق يجتمعون في حواسي على طاولتهم المعهودة دون أن يخرجوا بنتائج خارقة تخرجني من هوة العيوب الماسكة بتلابيب أحلامي لأجدني كيوبيدا آخر أرشق بسهامي قلوباً حائرة لترتّد ثانية إلى قلبي الموجوع كل مرة ، أفاعي اللذة المفتعلة تلتفّ حول مائدة رغباتي الهلامية، الجمال المرسوم على جدران الأزمنة، تدفعني إلى المضي نحو مفازات قصيّة، مجاهيل مليئة بمتاهات لا يخرج منها سوى الفطاحل من العقول التقدمية والفلاسفة العابرين سدم العصور البربرية، عشرات المدن التي زرتها خلال حياتي القرائيّة، تنبئني أنني لازلت أرقب سفرتي الأخيرة إلى حيث اللا مكان الوحيد الساكن مخيلّتي، يعتريني الخوف كل ليلة من ذاك المتربّص بي عبر ثقب المدى الماثل أمامي كشبح الغابة، أشعر به وهو ينسرب كالرذاذ في مساماتي، فأغدو جسدا بلا روح، يابساً ، هشّا، كأوراق الخريف المتساقط على وجه اليباب، الخوفّّ؟؟!! هو الشعور الوحيد الذي أنفر منه حين يحاول امتلاكي، ربما لأنني أمقته، رغم هدوئه المعتاد، وصمته الكئيب، ربما لأنني والخوف متشابهان!! كثيرا ما عانيت من خوفي المغمّس بالاشمئزاز والحزن حين كنت أمر بالقرب من المسكونين بالجوع والبردْ وهم كُثْر حولي، كالجراد حين تغزو جيوشه مزارع القمح، رفيف الوجع الساهد في مخيّلتي يمدّني بامتدادات صوفيّة، لطالما حبستْ انفاسي وأنا أمرق أمام ذاكرتي المشحونة بالهم والوحدة والعزلة، صديقة افكاري تربت على روحي كلما شعرتْ بانكفائي وجحوظ شغفي بالحياة، كلماتي لا تسعفني في محاولاتي المستميتة للخروج من شرنقة الاغتراب.