أخريات صيف عام 1981 كنا لا نزال نتمسك بالطقس العراقي في النوم ليلا على سطح دارنا متمتعين بنسيم الليل العليل، فجأة استيقظت فزعا على كم هائل من اطلاق النار، اسرعت بإيقاظ زوجتي وأطفالي، وعدنا الى غرفنا لنكمل نومنا القلق، فقد كان الرصاص لا يزال ينهمر.
علمت صباحا ان تلك الاطلاقات العشوائية كانت (احتفال) البعض باغتيال الرئيس المصري (محمد أنور السادات).
كنا قد تركنا افرشتنا في سطح الدار، فصعدت الى السطح لأجمع تلك الافرشة حماية لها من شمس النهار، فإذا بي أجد (رصاصة بندقية كلاشنكوف) قد اخترقت وسادة ابنتي البكر (زينب)، فحمدت الله على سلامتها، فلو لم أبادر بإيقاظهم، ليتركوا السطح، وينزلوا الى غرفهم، لكانت ابنتي ضحية ذلك الاطلاق العشوائي للنار.
صباح اليوم نفسه وصلت الى مقر عملي في محكمة تحقيق الكاظمية حيث كنت اعمل قاضيا للتحقيق، وقد اخذت الدعاوى تصل إلى مكتبي من مراكز الشرطة، فماذا وجدت فيها ؟ وجدت اكثر من ثلاثين إخبارا عن حوادث قتل واصابات، كانت كلها نتيجة ذلك الاطلاق العشوائي الذي جرى في الليلة الفائتة، وكان من بين ضحاياه زوارا جاؤوا للصلاة و للزيارة لمرقدي الامامين (موسى بن جعفر) و (محمد بن علي الرضا) عليهما السلام، فسقطوا بين قتيل وجريح، والنتيجة كان الفاعل في كل تلك الدعاوى (مجهولا)، فراحت تلك الدماء هدرا بلا حساب او عقاب، كما هي العادة في امثال هذه الحوادث.
ومازلت الى اليوم اضرب مثلا في لقاءاتي، ومحاضراتي بذلك الشاب الذي حول عرس أخيه الى مأتم، فبدلا من أن ينشر الفرحة، قتل أخيه (العريس) وصديقا له، إذ لم يجد وسيلة للمشاركة بذلك الفرح، إلا تلك البندقية اللعينة !
كثيرة هي الحوادث، وكثيرة هي المآسي، التي خلفتها وتخلفها تلك الاطلاقات التائهة التي تحصد الارواح، والنتيجة، موت مجاني. والجاني، إن لم يعرف، وبقي مجهولا، فهو جان بلا عقاب.
السؤال الذي يطرح نفسه، هل هذه الجريمة من الجرائم غير العمدية اي من جرائم الخطأ؟ لا ارى ذلك، والقضاء لا يرى ذلك ايضا! فالجرائم غير العمدية هي تلك الجرائم التي تقع نتيجة خطأ الفاعل سواء كان ذلك الخطأ إهمالا، او رعونة، او عدم انتباه، او عدم احتياط، او عدم مراعاته القوانين والأنظمة والأوامر. فهل الفاعل في هذه الجريمة كان في مثل احدى تلك الحالات ؟ الجواب على وفق رأيي ورأي القضاء أيضا لم يكن كذلك ! بل كان الفاعل يمتلك الإرادة، فهو يريد الفعل، الا انه لم يكن يريد النتيجة، الا انه كان قد توقع نتائج اجرامية لفعله فأقدم عليه قابلا بحدوث تلك النتائج ! وعليه ان يقبل في هذه الحال بما يفرضه القانون عليه! فاذن انها جريمة عمدية !
فالفاعل يرى حشدا من الناس فرحين في عرس، او مناسبة سعيدة اخرى، او يرى حشدا حزينا مشاركا في توديع احد اعزائهم، فيطلق النار (كما يقال في الهواء) بزعم مشاركتهم مناسبتهم فيموت من يموت، او يصاب من يصاب. فهو قد توقع (ولاشك) نتائج فعله، وقبل المخاطرة بامكانية قتل، او اصابة واحد او أكثر ممن احتشدوا محتفلين بتلك المناسبة. فهو يكون (ولاشك) مسؤولا عن جريمة القتل العمد في حالة الموت، او الشروع بالقتل العمد في حالة الاصابة وعلى حسب الاحوال.
لقد حسمت اعلى هيئة قضائية في العراق (الهيئة الموسعة الجزائية ) في (محكمة التمييز الاتحادية) الامر، فقضت بقرارها ذي الرقم 520/الهيئة الموسعة الجزائية/2017 الصادر بتاريخ 27/4/2017 بأن من (قام باطلاق النار وسط جمع من المواطنين قابلا المخاطرة بإمكانية قتل او اصابة احدهم متوقعا نتائج فعله وقبل المخاطرة مما يجعله مسؤولا عن جريمة القتل العمد عند موت المصاب او مسؤولا عن جريمة الشروع بالقتل العمد عند الاصابة على حسب الاحوال).
هذا كله ان توصل التحقيق للفاعل، وهذا نادرا ما يحدث، إذ كثيرا ما يكون الفاعل مجهولا، فنكون أمام جان بلا عقاب.