ظَهرتِ المُؤشِّراتُ الاقتصادية الأمريكية لشهر أغسطس، التي كانت الأسواقُ العالمية تنتظرُها، وهي: عددُ الوظائف غير الزراعية، ومعدّلُ البطالة، ومتوسطُ الأجور بالساعة، وهي مُؤشِّراتٌ تَترقَّبُها الأسواقُ العالمية، باعتبارها أهمَّ العلامات الدالّة على حركة التضخّم، والتي ستُؤثِّرُ على موقف البنك الفدرالي الأمريكي في قراره بشأن سعرِ الفائدة، ومقدارِ تخفيضِه.

وقد جاءت هذه المُؤشِّراتُ، وهي تحمل في طياتها الكثيرَ من التناقضات، وكالآتي:

* عددُ الوظائف غير الزراعية: تمَّ تسجيلُ 142 ألف وظيفة في شهر أغسطس، في حين كان قد تمَّ تسجيلُ 114 ألف وظيفة في الشهر الماضي، إلا أنه جاء أقلَّ من الرّقم المُتَوقَّعِ البالغ 160 ألف وظيفة.

ظهورُ مُؤشِّرٍ للتوظيف غيرِ الزراعي دون المتوقَّع، يشيرُ إلى رُكودٍ في الأسواق الأمريكية، وهو ما يُعزِّزُ التوقُّعَ بتخفيض نسبة الفائدة من قبل الفدرالي الأمريكي في أيلول الحالي، بمقدار 0.25% أو 0.5%، إلّا أنّ ارتفاعَ عدد الوظائف غير الزراعية من 114 ألف وظيفة في شهر تموز إلى 142 ألف وظيفة في شهر أغسطس قد عَكَّرَ صَفْوَ الأجواء، وأشَّرَ إلى مُعاناة الاقتصاد الأمريكي من حالة إرباكٍ وتَناقُضِ. 

* معدّلُ البطالة: سجّل مكتبُ إحصاءات العمل معدّلًا للبطالة في شهر أغسطس مقداره 4.2%، وهو المعدّل الذي كان مُتوَقَّعًا، إلا أنه جاء أقلَّ من معدّل البطالة لشهر تموز الماضي، الذي سجّل معدّلًا مقداره 4.3%، وهذا يشيرُ إلى نشاطِ وحيويةِ الأسواق الأمريكية، علمًا بأن هذه الأرقامَ تتناقضُ مع مُؤشِّر الوظائف غيرِ الزراعية، وتُؤثِّرُ، سلبًا، على تَوقُّعاتِ تخفيضِ الفدرالي الأمريكي لِسعرِ الفائدة، وهي، في نفس الوقت، زَرعتِ التَّردُّدَ والإرباكَ في نفوس المُضارِبينَ والناشطِينَ في الأسواق.

* مُتوَسِّطُ الأجورِ بالسّاعة: أظهرَ تقريرُ الوظائفِ زيادةً في متوسّط الأجور بالسّاعة لشهر أغسطس بمقدار 0.4% على أساسٍ شهري، في حين كان من المُتوقَّع أن تكون الزيادةُ بمقدار 0.3%، علما بأن زيادةَ متوسّطِ الأجور بالساعة لشهر تموز كانت 0.2% على أساسٍ شهري.

هذه الزيادةُ في الأجور مُؤشِّرٌ مُعزِّزٌ لرفع معدّل التضخّم، ومُتناقِضٌ مع انخفاض عدد الوظائف غير الزراعية، ومُثيرٌ لِقَلقِ الفدرالي الأمريكي، باعتباره مُحفِّزًا للطّلبِ، مما قد يجعلُه لا يتجرَّأُ على تخفيض سعرِ الفائدة بمقدار 50 نقطة، ناهيك عن خلق حالة من الإرباك في الأسواق الأمريكية.

وقعَ الفدراليُّ الأمريكي بين مِطْرقةِ الشركات التكنولوجية العالمية، والناشِطينَ في البورصات العالمية الذين يُلِحُّونَ عليه للاستعجال بِتَخفِيضِ سعرِ الفائدة، وسَندانِ المُؤشِّراتِ المُتناقِضَةِ أعلاه، التي تجعلُه يَتأنَّى في خطواته، لذلك أتوقَّعُ أن يقوم البنكُ الفدرالي بخفض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة في أيلول، كما أنني أتوقَّعُ أن يتراوحَ خفضُ الفائدة في نهاية العام بين 100 نقطة، و125 نقطة.

استقبلتِ الأسواقُ العالمية هذه المُؤشِّراتِ المُتناقِضةَ بكثيرٍ من الحَيْطَة والحَذَر، مع قليلٍ من التَّفاؤُلِ، فهي تخشى من رُكودِ الاقتصادِ الأمريكي، على الرّغم من محاولاتِ طَمْأنَةِ الأسواق من قبل المُؤسّسات المالية الأمريكية، التي تَسعى جاهدةً إلى إنكارِ هذا الرُّكودِ.

لذلك، لم نشهدْ اِنتعاشًا للبورصات العالمية، ولا اِرتفاعًا ملموسًا لسعرِ الذَّهب، إلّا في نطاقٍ مَحدودٍ، بل ولم تتَّجهْ بَوصلةُ العُمْلاتِ المُشفَّرةِ نحو الصُّعود، على الرّغم من قناعة الأسواق بقيام البنكِ الفدرالي بخفضِ سعر الفائدة، ويعودُ ذلك، بالإضافة إلى ما ذكرتُه أعلاه من تناقضِ المُؤشِّراتِ، إلى خَشيةِ الأسواقِ العالمية من رُكود الاقتصاد الأمريكي، وعدمِ قناعتِها بطَمأنَةِ المؤسّسات المالية الأمريكية، وبالأخصِّ، الخشية من الخسائر التي قد تتعرّضُ لها الشركاتُ الكبرى، وشركاتُ التكنولوجيا العالمية، وكذلك، تلعبُ الانتخاباتُ الأمريكيةُ دورًا بارِزًا في إخَافةِ الأسواقِ العالمية، لِحساسّية هذه الانتخابات، ولِصُعوبةِ تخمينِ نتائجِها، ولِخُطورةِ تلك النتائج على الاقتصاد العالمي، هذا بالإضافة إلى الوَضع الاقتصادي في اليابان، ودَورِ رَفْعِ سعرِ الفائدة على حركة الكِتلة النقديّة في العالم، من خلال "تجارة الفائدة" أو "CARRY TRADE"، ناهيك عن الوَضع الجيوسياسي المُتأزِّمِ.

أعتقدُ أنّ الأوضاعَ الاقتصادية العالمية تسيرُ نحو الاحتفاظِ بالكِتلة النقديّة، وانتظارِ اِنقشاعِ الغُيوم عن الرُّكودِ الاقتصادي في أمريكا، وظُهورِ نتائج الانتخابات الأمريكية، ومَسيرةِ سعر الفائدة في أمريكا وأوروبا واليابان، ومَآلاتِ الأوضاع الجيوسياسية.

سيَتأثَّرُ النفطُ كثيرا من هذه الأوضاع العالمية، وبالأخصِّ الأوضاع في أمريكا والصين، باعتبارهما أكبر المنتجِين في العالم، وسينخفضُ سعرُ النفط عالميا، طالما كان النّموُّ العالميُّ منخفِضًا، إلّا إذا حدثَ تغييرٌ جيوسياسيٌّ غيرُ مُنتظَرٍ، وستَتأثَّرُ الدولُ المنتِجةُ للنفط، وبالأخصِّ، العراقُ، باعتبار اقتصادِه اقتصادًا رَيعيًّا، مُعتمِدًا، بالدّرجة الأولى في موارده على واردات النفط، وقد يتعذّرُ عليه تمويلُ إنفاقِه، ورواتبِ موظَّفيهِ بشكلٍ اِنسيابيٍّ، بل وأخشى أنْ يؤدّي ذلك إلى خَللٍ في مَنظومَة الحُكم، وتَعرُّضِ البلدِ لِصَدمةِ الاِنهيارِ.

تَأَثُّرُ العالَمِ بما يدورُ في أمريكا، يعودُ بالدرجة الأولى إلى الأنشطة التي تُمارِسُها الأسواقُ والبورصاتُ العالميةُ، التي تُوظِّفُ كِتلةً نقديّةً هائِلةً في عملياتِ مُضارَبةٍ بهدفِ جَنْيِ الأرباحِ خارجَ العمليةِ التّنمَويةِ، والتي لا تَصُبُّ في رَفع وَتيرَة الإنتاجِ، بل تُؤدّي إلى تَوَسُّعٍ اقتصاديٍّ، من خلالِ تَوسُّعِ الكِتلة النقديّة،  وبالتالي تَعَرُّضِ العالَمِ لتضخّمٍ مُزمِنٍ، عَجزتْ أدواتُ السياسة النقديّة العالمية عن مُعالجتِه، بل تَسبَّبَ استخدامُ تلك الأدوات في خلقِ حالةٍ من الرُّكود العالمي، فتولَّدَ عن ذلك، ولأول مرة في التأريخ، رُكودٌ تَضخُّمِيٌّ عالميٌّ، تَنكمِشُ فيه العُمْلاتُ، وترتفعُ فيه أسعارُ السِّلَعِ والخَدَماتِ، جنبًا إلى جنبِ رُكودِ الأسواقِ، وانخفاضِ النّمُوِّ، وتَراجُعِ الإنتاجِ.

وقد أشَرتُ إلى هذه المُضارَباتِ في الكثير من كِتاباتي، وبَيَّنْتُ أضرارَها الاقتصاديّةَ، ومَحاذِيرَها الشّرعيّةَ، ودَعوتُ إلى تَبنِّي سياساتٍ انضباطيةٍ وتنظيميةٍ لِلَجْمِ زِمَامِها، ومنعِ مُمَارَستِها، إلّا في حدودِ الأهدافِ التي وُضِعَتْ لها، لتحقيقِ العدالة في السّعر، وتوفيرِ السِّلَعِ، وتنظيمِ التّجارةِ العالميّةِ.