(والصبح إذا تنفس) هذه الآية الكريمة هي أول ما خطر على بالي وأنا أزيح الستارة لأتلقى خيوط الفجر الأولى وهي تتمطى توا لتستيقظ من غفوتها ، قررتُ لحظتها أن أذهب لتناول الفطور في الصدرية، تلك المنطقة التي يفوح منها عبق الماضي بمطاعمها الشعبية وازقتها الضيقة التي بالكاد تسمح بمرور الأفراد.

شيء من النشوة والسعادة اجتاحتني وأنا ارتب هندامي لأني أحب هذا المكان الأثير وتربطني به علاقة روحية خاصة.

خرجتُ إلى الشارع، كان النسيم بارداً ، ثم انطلقتُ بالسيارة تحت زخات المطر إذ بدأتْ السماء تنثر قطرات لاحت على الزجاج الأمامي، شغلتُ المساحات ببطء يتناسب مع الهدوء الذي كان يلف المدينة، كم أحب بغداد حين تكون شوارعها خالية.

بعد ربع ساعة كنت هناك ، ركنت سيارتي ومشيتُ مسافة قصيرة حتى وصلتُ إلى (مطعم رسول أبو القيمر) .

جلست بجانب الحائط داخل المطعم الذي اكتظ بالزبائن حيث وجدت مكاناً فارغاً، ناديتُ على النادل أن يحضر لي قشطة "قيمر" وكاهي ، وطلبتُ كذلك حليب جاموس بالعسل، كان ساخناً والبخار يتصاعد منه بشكل شهي يوحي بالدفء .

لم أقاوم إغراء المنظر فبدأتُ باحتساء الحليب على مهل تحتمه الضرورة لأنه كان ساخناً ولكنه لذيذٌ جداً ، بعدها التفتُ إلى قطع الكاهي المقرمشة والتي تتربع عليها القشطة كملكة تأمر فتطاع، جاءني النادل بعد هنيهة يحمل شاياً ساخناً معطراً بالهيل، شربتُ نصفه، وخرجت أملا في إتمام الشاي عند أبي صميم في مقهاه الذي يقابل مطعم رسول.

طلبتُ أرگيلة بطعم الليمون، مع شاي مهيل لا يقل سحراً عن الارگيلة التي بدأتُ باستنشاق عبيرها ، أتأمل مأخوذاً عبر الزجاج سحر المكان وعبق التراث الذي يضوع منه.. ، بدأ الازدحام رويداً يظهر على الأرصفة والطريق وكأن الضجيج والنشاط قد دب مبكراً ، وبدأ العمال والكسبة بالظهور، والمحلات تفتح أبوابها، وسيارات الأجرة تتزايد ، وعربات الدفع تتجه إلى منطقة الشورجة التجارية القريبة من الصدرية، حيث يعمل أصحابها حمالين في السوق الكبير ، كانوا رجالاً من مختلف الأعمار ، فهناك منهم الطاعنين في السن، يسيرون جنبا إلى جنب مع شباب ومتوسطي العمر، جميعهم كانوا يحثون الخطى ويسعون لكسب رزقهم اليومي .

لفت نظري فرن كبير على الجانب الآخر من (مطعم رسول أبو القيمر) ، يزهو بأنواع الخبز، كان خبزه مطروحاً على لوح خشبي كبير نصب تحت سقيفة يتجمع حولها الناس يشترون الخبز "الصمون" بانواعه إضافة إلى الكعك والفطائر وأنواع المعجنات الشهية الاخرى، كان الدخان يتصاعد من الخبز فيصطدم بصقيع البرد ليشكلا لوحة فنية غاية في الجمال.

في خضم هذه الأجواء الصباحية الساحرة، بدأ المطر بالهطول بغزارة، فاحتمى الناس تحت سقوف الأبنية على الأرصفة هربًا منه، بينما سارع بائعو الخضراوات والفواكه إلى نصب مظلات كبيرة على عرباتهم لحماية بضاعتهم.

في تلك اللحظة دخل المقهى رجل كبير في السن وجلس بجانبي ، كان يرتدي بدلة سوداء من الطراز القديم ترصعت بحبات المطر ، وسدارة بغدادية وضعها على رأسه تبللت هي الاخرى ، وقد أخرج من جيبه ساعة قديمة معلقة إلى سلسلة فضية ، كان ينظر إليها بين الحين والآخر بنظرات يشوبها القلق للتأكد من الوقت ، يبدو أنه كان على موعد مع أحد ما، التفت الى صاحب المقهى وطلب منه الشاي بلهجةٍ بغدادية : "رحمة لوالديك فد استكان چاي مهيل من راس القوري" ، أعجبتني هيئته التي تشبه رجال بغداد القدامى ، حيّيته قائلاً: "الله بالخير حجي "، فرد عليّ قائلاً: الله بالخير اغاتي .

أراد البدء بالحديث معي ، وقال: ما شاء الله، اليوم مطر "خير من الله"، مستدركاً : يبدو أن المطر سيستمر بالهطول طيلة هذا اليوم . أجبته بلطف: والله يا حاج ، الله أعلم ، دع النهار يشرق ونرى ما تحمله لنا السماء ، خصوصاً أن الشمس تشرق في الشتاء بوقتٍ متأخر.

فقال: خير إن شاء الله، كل ما يأتي من الله نحمده عليه .. سكتَ بعد هذا ، وسكتُ أنا ، إذ لم اشأ الرد حتى لا أطيل الحديث ، الذي يمنعني من ممارسة شغفي الكبير، وهو الكتابة التي كانت الهدف من مجيئي إلى هذا المقهى وقضاء فيه بعض الوقت .. رفعتُ ياقة سترتي وسحبت سحابها إلى الأعلى لأغطي جزءاً من رأسي واحمي رقبتي من البرد الذي بدأ بالتسلل إلى جسدي، لادخل في خلوتي التي اعتدت عليها، وانسلخ عن عالم البشر على الرغم من الضجيج الذي بدأ يزداد مترافقا مع حركة الناس التي ازدادت هي الأخرى، احتسي الشاي وأُدخّن ارگيلتي وأكتب ما يجول في خاطري من أفكار تؤطرها مدينة تتلفع بالماضي و تأبى أن تغادره لأنه شكل هويتها التي ما فتأت تجذب الناس لتكون قبلتهم وهم يتنعمون بوجبة إفطار شهية من (مطعم رسول أبو القيمر) .