واحدة من أهم وأخطر ما يواجه مجتمعاتنا وهي في خضم عمليات تغيير اجتماعي وسياسي هي تلك المنظومة من السلوكيات والثقافات المتوارثة عبر أجيال وحقب زمنية ليست قصيرة، ابتداءً من الأسرة وسلطة الأب أو ولي الأمر، وانتهاءً بالقائد الضرورة مروراً بكل من تسلط على عباد الله وإن كان عددهم اثنان فقط، لكي يمارس فيها نرجسيته وتفرده. فإذا كانت البداوة مرحلة من مراحل تطور مجتمعاتنا وما زالت كثير من سلوكياتها تتمركز في مفاصلنا التربوية والاجتماعية، مضافاً إليها إكسسوارات قروية وقبلية كرست تفرد الشيخ و الأغا، الذي تطور تدريجياً كمفهوم للتسلط والأحادية في من يتولى إدارة أي مؤسسة أو حركة أو حزب في حياتنا، حيث تتجلى اليوم في الكثير من سلوكيات أولئك الذين يحملون شعارات الديمقراطية خاصةً في مرحلة ما سمي بالربيع العربي الذي صبغ بلدان البداوة السياسية بألوان الدماء والدموع منذ سنوات على أنقاض أنظمة أوحت لنا جميعاً، أن دكتاتورياتها أفضل بكثير من ديمقراطية البداوة الجديدة، تلك الدكتاتوريات التي أنتجت مشروع داعش مختصرة كل أفكار وتوجهات من أرادوا بناء دولة الوحدة العربية أو الإسلامية وصهر وإذابة كل ما هو خارج مفهومي الانتماء لغير العرب أو الإسلام في بوتقة هذا المشروع، وعودة سريعة لمكامن نشوء وبلورة الدكتاتورية اجتماعياً وتربوياً وتطورها سياسياً ندرك دقة ومصداقية ما يقوله علماء النفس في إحدى نظرياتهم حول عالم الطفل الذي يرى نفسه مركزاً للمجتمع الذي يدور حوله، بل وفي خدمته وتحت تصرفه، وبوجود بيئة تساعد على نمو هذا الشعور وتعملقه ودلال أسرته يتحول هذا الكائن المدلل تدريجياً إلى دكتاتور لا شريك له في هذا العالم، ابتداءً من تحوله إلى رب أسرة ينتج سريرته ويكاثرها في أبنائه أو بناته، أو مدير دائرة يُشعر معيته بأنه فيلسوف عصره وأن استبداله سيوقف حياة وتطور تلك الدائرة، ولك أن تقيس أخي القارئ كلامنا هذا على مديرك العادي وصولاً إلى من يتولى إدارة المنكوبين من العباد، فيصبح رئيساً عظيماً وضرورة أو حتمية تاريخية، يتطلب من بقية الكائنات الدوران حول كوكبه الدري.

إن تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية وقبله القاعدة ومجمل الحركات العنصرية والدينية والمذهبية وخاصة داعش، ليست طارئة أو وليدة الربيع البائس، بل هي نتاج ثقافة وسلوك متراكم من مئات السنين، وخبطة معقدة من الثقافة الدينية البدائية والسطحية والسلوك البدوي وعقلية القرية وبنائها الاجتماعي والتربوي، وهي بالتالي الحلقة الأخيرة في سلسة الأحزاب العنصرية القومية أو الدينية التي تطمح لبناء دولة ايديولوجية، أساسها العرق العنصري أو الدين المتطرف والمتشدد، وما يتبعه من مذاهب وطوائف، ببناء فكري متعصب أحادي التفكير، لا يقبل الآخر إلا عبداً مطيعاً أو ملحاً مذاباً في بوتقته الفاهية، وعلى ضوء ذلك ولأن دورة تربية مجتمع بأكمله من الطفولة حتى النضج تستدعي زمناً ليس قصيراً، بل حقبة طويلة لسبب بسيط هو أن المربي ذاته هو الذي أنتج هذه السلوكيات، ولأن الكثير الكثير يؤمن بأن مجتمعاتنا لا تتحمل هذا النمط من النظم الاجتماعية والسياسية، وهي سعيدة جداً بوجود الفارس والرمز، بسبب تراكمات هائلة من العادات والتقاليد والتركيب النفسي والاجتماعي والتربية الدينية الأحادية الاتجاه. عليه وجب البحث عن حلول وخيارات أخرى غير هذه النظم أو أن يتحول الجميع إلى دكتاتوريين لكي لا يُتهم أحد بأنه قد تفرّد بالآخرين!؟

وحتى يتحقق ذلك الهدف وحماية لأجيالنا القادمة من ظهور دكتاتوريات متوحشة تبتلعهم علينا أن نبدأ من السنوات الأولى لحياة الطفل في تهيئة بيئة صالحة لنمو كائن ديمقراطي لا يعتبر أن المجتمع كله خلق من أجله، بل يؤمن بأنه خلق من أجل المجتمع، وتعديل تلك المشاعر والسلوكيات الغرائزية وفق أسس تقلب المعادلة، فيتحول من كوكب تدور حوله كل الكواكب، إلى نجم يدور هو حول كوكب اسمه المجتمع، ويشعر بأنه جزء من عالم وعليه خدمته لإثبات انتمائه له دونما شعور بالفردية الطاغية، ومن هنا تبدأ حكايتنا حيث يستمر هذا الطفل باعتبار كل العالم يعمل لأجل تنفيذ رغباته أو العكس، فإذا جمعنا طفلنا المدلل واعتبرناه في جمعه يمثل مجتمعاتنا الشرقية، ندرك ونكتشف حقيقة اللبنات الأولى في بناء الديمقراطية أو الدكتاتورية.