من المعلوم بان الحياة عالم الاسباب , ومنها صنع الله قوة التدافع نحو الافضل ، أي بمعنى آخر ان هذه الاسباب هي التي تدفع بالانسان ان يتصارع مع ايام عمره لتحقيق اهدافه , فان قيامه بالصيد سبب للحصول على لقمة العيش و لجوءه الى الكهوف و بناء القلاع و الحصون و استخدام الاسلحة البدائية اسباب لتوفير الامان له و لعائلته و التزاوج بينهم سبب لأستمرار الحياة بالانجاب و هكذا .
أحياناً لا يفلح الانسان ان يأخذ بالاسباب المناسبة لتحقيق هدف معين في حياته , و هذا ايضاً لأسباب منها سوء التقدير او الأخذ بالاحكام السابقة لقضايا مماثلة او عدم قدرته على تحمل المسؤولية الملقاة عليه ، و ان العلوم الانسانية كشفت و يكشف باستمرار الاسباب التي تقف حائلاً امام تحقيق الانسان لمأربه من الجوانب المختلفة كلٌ حسب وجهة نظره , و لكن هذه الاسباب بجميع اشكالها تجتمع في فئتين اثنين فقط وهما الاسباب الذاتية المتعلقة بالانسان نفسه ، و الاسباب الموضوعية المحيطة به أي الموجود في البيئة التي يعيشها , و من طبيعة البشر ان يعزي اسباب فشله في تحقيق هدف معين الى غيره او الى اسباب خارجية إلا القليل منهم الجرئ الذي يعترف بخطأه و يداوي جرحه و يضع النقاط على الحروف لا لشيئ إلا ليستفاد منه في ايامه القادمة ، و يصنع منها تجربة مريرة ينطلق منها الى تحقيق الاسمى , و ان الذي لايعتبر من دروسه السابقة سيبقى دائماً اسير الظروف المحيطة به و قلما يحقق آماله .
الشعب الكوردي باصالته التاريخية و الجغرافية في هذه المنطقة وفق الشواهد و الدلائل و الوثائق التي تنص و تبين بأنهم اصحاب هذا الارض منذ الازمنه البعيدة ، و دافع عنها بشراسة ، و ناضل من اجل حقوقه المشروعة اسوة بغيره من الشعوب ، و استطاع في فترات عديدة من بناء كيان مستقل له تحت مسميات عديدة امتدت لفترات طويلة و شملت مناطق واسعة ، و لكنها سرعان ما انهارت و تبددت آثارها ليفتح الباب امام الاعداء ليكتبوا تاريخها حسب ما يشاؤون .
ان الوقوف امام اسباب الأنهيار و عدم الاستمرارية يحتاج الى الشجاعة و الجرأة من لدن اصحاب الخبرة و المختصين ، لأن نقد الاجداد يحمل بين اكتافه المرارة ، و لكن مرارة الدواء المقدم للمريض لايعني بأي صورة الانتقام او عدم الحب , و مما لاشك فيه فان الحياة تجارب و مواقف منها ما يكون حلوة و اخرى مرة ، فعلى الانسان ان يقف على اسبابهما معاً لدعم القوي منها و اصلاح الضعيف من اجل عدم تكرارها او الاعتماد عليها ثانيةً .
إذا لم أكن مخطئً ، فان الاكاديميين و المؤرخين يكادون متوافقين فيما بينهم بعد قيامهم بالابحاث و التحقيقات اللازمة في دراسة التاريخ ، بان عدم تحقيق الكورد لأهدافهم القومية و بناء كيان مستقل لهم او عدم استمرارها لفترات طويلة ، تكمن في الخيانة و الروح التأمرية لأن الشعب الكوردي معروف عالمياً بأنهم جنود مخلصين و ارادتهم صلبة لا يمكن هزيمتهم وجهاً لوجه ، لذا فان الاعداء دائماً ما يلجأون الى اساليب اخرى ملتوية ، منها شراء الذمم و زرع الخيانة ، و دعم روح التأمر و تمزيق وحدتهم الوطنية في سبيل اضعافهم ، و تبديد آمالهم ،و إنها تترك في قلوبهم الحسرة و الندامة، و لكنها بات داءً نعاني منها منذ القدم ، و عرفها الاعداء و جعلوا منها باباً مفتوحاً على مصراعيها كلما اقترب من الهدف يجر البساط من تحت قدميه من الخلف .
في تاريخنا الحديث و خاصة بعد عام 1991 ، دخل الشعب الكوردستاني مرحلة جديدة من الحكم و السلطة ، بحيث كانوا دولة الامر الواقع تحت مظلة الاقليم الفدرالي، و اتخذوا خطوات جيدة في سبيل تحقيق آمال الشعب ببناء المؤسسات التنفيذية و التشريعية و القضائية ، و دورهم كان مشهوداً و مؤثراً في تحرير العراق ،و بناءه وفق اسس الشراكة و الديمقراطية التوافقية ،و لكن لاسباب عديدة منها انتهاك المواد الدستورية ،و عدم تطبيقها من قبل الحكومة العراقية ،و عدم دعم الثيشمةرطة ، و قطع الموازنة و الرواتب و الاقصاء المرحلي للكورد , قرر الشعب الكوردستاني إجراء استفتاء شعبي ليعبر عن رأيه في تقرير مصيره و وقف اصدقاء البارحة قبل اعداء اليوم في وجهها ، و صوت الشعب بنسبة (92%) لصالح الاستفتاء فجن جنونهم و بدأت الروح التأمرية تفعل فعلتها لتنتهي باحداث 16/10/2017 و دخول القوات العراقية و الحشد الشعبي الى مدينة كركوك (القلب النابض) و تبدأ قوات الثيشمةرطة بالانسحاب و تترك وراءها عدداً من الشهداء الذين ذهبوا ضحية لمؤامرة خيانية و بدأت الاهالي بالنزوح هرباً من القتل و التدمير الذي أدانه المنظمات الدولية و بدأت الانسحاب تلى الاخرى ، حتى فقدنا حوالي (50%) من اراضي كوردستان امام غرور الحكومة العراقية و شعورها بنشوة النصر الذي يفوق انتصاره على داعش الارهابي لا تقبل بالمفاوضات و الحوار إلا بعد التدخل الدولي .
المهم في هذه الاحداث إنها كانت انتكاسة اخرى يضيف الى سابقاتها من الانتكاسات الاخرى ، و أنها تستحق الوقوف على أسبابها و دراستها ، لحجم آثارها ، و عظمة تأثيرها في نفوس الشعب الكوردستاني حيث كان على ابواب تحقيق حلمه المنشود و الضربة كانت قاصمة هز الوجدان و انفجرت العيون دموعاً و القلوب حزناً و ألماً و حسرة .
إن قراءتنا المتواضعة للاحداث دفعتنا الى الوقوف على اسباب ماجرى و يجري و لايزال ، بحيث ان الحكومة العراقية بمباركة الدول الاقليمية لا تقف عند هذه الحدود إلا مارحم ربي و اللوم أولاً و اخيراً على اصحاب الروح التأمرية ، و ان بيان هذه الاسباب تأتي في مدى حبنا لشعبنا ، و ليس بهدف الانتفاض و النقد الهدام :
- الخيانة و نظرية المؤامرة ، التي تجري مجرى الدم في عروق عدد من أبناء الشعب الكوردي ، بل بات عدوى يزداد يوماً بعد آخر ، و يتنوع في حياكة خطوطه ، و يتفنن في ممارستها ، و هذه الصفة ثمار عدم ايمانه بقضية شعبه ، و حبه لقوميته لا تخرج من إطار المزايدات والعناوين المتلألئة ، و رضوخه لأطماع الاعداء و العمل وفق توجهاتهم البغيظة ، و هناك العديد من الشواهد التاريخية الدالة على ذلك وقد كتب الكثير عنها ، باعتبارها طعنة من الخلف التي تترك اثاراً جسيمة يصعب نسيانها .
- سوء التقدير : صرح السيد الرئيس (مسعود البارزاني ) ، قبل ايام في تصريح متلفز ، بان سوء التقدير كانت احدى الاسباب التي تقف وراء الاحداث الاخيرة في الاقليم و خاصة مدينة كركوك ، و هذا يعني بأن القضية (الاستفتاء و مابعدها) لم يتم دراستها من الجوانب المتعددة ، و اعتمدت القيادة السياسية على أراء عدد من المستشارين و المحليلين الذين اكتفوا ببيان الجانب الايجابي فقط للموضوع ، و هذا يعد نقصاً في الدراسة و التحليل ، و حتى إن كان هناك اراء تناولت الجانب السلبي منها، إلا انها لم تلق أذاناً صاغية ، بالاضافة الى عدم الحساب لقوة العراق كدولة ، و قد أعتبر دولة فاشلة لا تستطيع فعل شيئ .
- ممارسة السياسة بالعاطفة : السياسة تعني المصالح الثابتة في تعريفها بشكل مختصر , إلا ان الشعب الكوردستاني يمارس السياسة في غالبيتهم على اساس العاطفة فمثلاً كان يرى حرمانه طيلة القرون الماضية من تحقيق طموحاته ببناء كيان سياسي مستقل له بسبب المصالح الدولية المتقاطعة مع اهدافه و توقيع الاتفاقيات بتقسيمه، يدفع بالمجتمع الدولي الى التعامل معه بروح العاطفة بعيداً عن المصالح ، و كذلك الحال في حربه مع داعش حيث كان ينتظر من المجتمع الدولي مكافئتة و عدم رد طلباته بعد ما دافع بكل قوة عن السلم و الامن العالميين ضد تنظيم داعش الارهابي , و أن الزيارات المتتالية للوفود الدولية و الدعم الدولي للاقليم و استقبال وفود كوردستان في المحافل الدولية و القصور الرئاسية كانت ضمن إطار مصالحهم و ليس حباً و عطفاً على الاقليم و شعبه ، كما أنه تعامل مع ملفات عديدة بروح التعاطف منها قضية اللجؤ والنزوح وبناء المخيمات وتقديم المساعدات لهم وغيرها الكثير .
- المصالح الدولية : المنطقة برمتها باتت ساحة صراع بين الدول الاقليمية و الدول الكبيرى ، حيث تتصارع المصالح متوازية و متقاطعة ، و يبدو كما كان سابقاً ان مصالحهم و طموحاتنا متوازية لا تلتقي ، و انهم لا يضحون بمصالحهم من اجل طموحاتنا ،بل تضربها عرض الحائط ، لأن الجميع يجري وراء تحقيق أهدافه و تأمين مناطق نفوذه و موضع قدم له .
هذه الاسباب تأتي في المقدمة ، و يمكن ان يكون هناك العديد مثل بٌعد القيادة السياسية عن واقع الشعب و ظهور النظام الطبقي في المجتمع من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والموقع الجغرافي المهم لكوردستان وغيرها ، و إن بيان هذه الاسباب تأتي من إندفاعنا و حبنا لشعبنا و وطننا لتكون درس و عبر و تجربة ذقنا مرارتها لمرات ، أملاً في الأخذ بها في الاتي الجميل من الزمن الذي يحمل معه البشارة والخير وتحقيق ما يتطلع عليه هذا الشعب .