نعم، العراقُ في أزمة حقيقية، مُعقَّدة ومُتشابِكة، في كافّة النواحي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما يُعانيه في ذاته داخليا، وبما يحيطه من أزماتٍ إقليمية وعالمية.
فالاقتصادُ هَشٌّ ومُنهَكٌ؛ أنهَكتْهُ أيادي الفساد العابثة فيه، وأضحى عُرضَةً للسرقة العلنية الفاضحة، من قِبَلِ كلِّ عراقيِّ وصلتْ يداه إلى المال العامِّ، سواء كان في قمّة السلطة، أو في إحدى زواياها، أو حتى خارجها، ولا يُستَثنَى من ذلك إلا ما رَحِمَ ربَّي.
هناك تكالُبٌ على نَهْشِ الاقتصاد، وأكلِه، والاستيلاءِ عليه، وتمزيقِ أوصالِه، بالكثير من الوحشية، وعدمِ الشعور بالمسؤولية، ناهيك عن مُخطَّط النظام الإيراني لاحتوائه ودمجِه مع اقتصادِه، الأمرُ الذي أنتجَ حالةً من التّدافُع الشديد والعسير بين الجهات الفاسدة العابِثة بالاقتصاد العراقي، والتنافسِ على استقطاع اللقمة بأية طريقة كانت، وممن كان، فارتفعت، بذلك، وتيرةُ الصراعِ والتنافسِ بين الفاسدين، وبدأت مرحلةُ الشّكايات والمحاكِم والتّصفيات والاغتيالات، التي ستَتفاقَم، حتمًا، في قادم الأيام، لتدخلَ مرحلةَ كسرِ العظمِ.
أما السياسةُ في العراق، فلا تَعدو، بشكلٍ عامٍّ، عن جُملةِ مُمارساتٍ صوريّةٍ تؤدّيها شُلّةٌ لا تَمُتُّ للسياسة بصلة، لا هَمَّ لها إلا اعتلاء المناصب، والوصول إلى المال العام، ونهب ما يمكن نهبُه.
ملابساتُ تشكيلِ السلطة السياسية في العراق بعد 2003م، خلقتْ نظاما سياسيا هشًّا، قائما على توزيع المناصب، وتقسيم الثروة، وهو وضعٌ، يستحيلُ فيه إدارةُ الدولة بشكل مؤسّسي، وبما يخدم مصالح الشعب، ويضمن مستقبلَ أجياله، مما أفرزَ حالةً من التّجاذُب، والتنافس، والتناحر بين الأطياف السياسية، وكياناتِها العاملةِ على الساحة العراقية، وأسفرَ ذلك عن ظهور مرحلة الشكايات والمحاكم والتصفيات السياسية، والتي تتفاقمُ يوما بعد، وباطِّرادٍ مَلموسٍ.
وأما الوضعُ الاجتماعيُّ في العراق، فحدِّثْ ولا حَرج، فالمجتمعُ العراقي المَشروخ، ابتداءً، تعرّض لتمزيق نسيجِه بشكلٍ مُفرَطٍ، مع تَقادُم الزمن، فالصراعُ على استمالة وتحشيد أطيافه الإثنية والدينية والأيديولوجية، ساهمَ كثيرا في الاصطفاف الديني والعرقي والطائفي، والفسادُ الماليُّ والإداريُّ الفاضحُ والعلنيُّ، أضافَ قدرا كبيرا من الأحقاد في نفوس العامّة من الناس، وعمّقَ الجرحَ والتمزيقَ الذي يُعاني منه المجتمعُ العراقي، وتناطحتِ الشعاراتُ الدينية والعرقية والطائفية، في الشارع العراقي، وفي أروقة المحاكم، ودوائر الدولة، حتى تضخّمَ المجتمعُ العراقي بطاقةٍ سلبيةٍ، كامنةٍ، قابلةٍ للانفجار في أيّة لحظة، تأكلُ الأخضرَ واليابسَ.
كلُّ هذا الانحراف عن المسار المؤسسي الرصين للعراق، والمليء بالأحقاد والصراعات والفساد المستشري، لم يدفع البلاد إلى الانهيار لحد الآن، إلا أنه يَخزُن طاقةً تدميريةً بشكلٍ مُطَّرِدٍ، مع مرور الزمن، كما أن سعيَ المَحافلِ السياسية ورجالاتِها إلى المحافظة على التوازن، وعدمِ لَيِّ الأعناق، والخشيةَ من سقوط الكُلِّ بسقوطِ الواحد منهم، كأحجار الدُّومينو، ساهمَ في تأخير الانفجار العظيم، والانهيار المُحقَّقِ.
ولكن.. ومع أولِ شرارةِ تغييرٍ في المنطقة، أو العالم، التي ستَندلِعُ، لا مَحالة، أو مع أول سقوطٍ حُرٍّ لأحدِ أركان الطُّغمة السياسية الحاكمة، ولأي سبب كان، أو مع دخول النظام الإيراني في وضعٍ جديدٍ، يُحدَّدُ فيه دورُه الإقليمي، ستأتي الصَّدْمَةُ التي تُعالجُ أزمةَ العراق.
سينهارُ البلدُ، وتسقطُ الدوائرُ الحكومية، وينفلتُ الأمنُ، ويخرجُ أفرادُ الشعب إلى الشوارع بحثا عن رجالات (النظام السابق!)، لِيَصُبُّوا فيهم جامَ غضبِهم، ويُطفِؤُوا نارَ قلوبِهم، فيُمارِسون مع مَنْ يقعُ منهم في أيديهم شتّى أنواع القتل والسّحل والتعذيب، ويَتمُّ الاستيلاءُ على أموالهم وممتلكاتهم، ناهيك عن نهبِ دوائر الدولة، والممتلكات العامة.
هذه الصدمةُ، ستخلُقُ نظاما جديدا، خاليا من أركان ومُخلَّفات الاحتلال ما بعد 2003م، بوجوهٍ جديدة، ووضعٍ جديد.. ولا يمكنُ، اليومَ، وصفُ الوضع الجديد القادم، لأنه يعتمدُ على سبب، أو أسباب انهيار البلد، فقد يستمرُّ العراقُ مُوحَّدا، بوجهٍ جديد، أو مُقسَّما بوجوهٍ جديدة، كما قد يكونُ الوضعُ القادمُ بدايةً لنهايةِ الأزمةِ العراقيةِ، أو يكونُ بدايةً لتغييرٍ غيرِ جَوهَريٍّ فيها، وكلُّ ذلك يعتمدُ على ماهيّةِ الوجوهِ الجديدة، وكفاءتِها، ونزاهتِها.
هذه الصدمةُ، نتيجةٌ طبيعيةٌ لتراكُماتِ الانحراف الذي حصلَ في العقد الاجتماعي بعد 2003م، إذ لا يمكنُ حصولُ التغييرِ، وانتقالِ السّلطة بشكلٍ سَلِسٍ مع هذا الكَمِّ الهائل من الفساد والاستخفاف الفاضِح والمُجرَّدِ عن الخَجل، والذي أحرقَ قلوبَ الملايين من العراقيين، ودمّرَ حياتَهم، ومَحا مستقبلَهم، وأضاعَ ثرواتَهم، وسرقَها.
نعم.. عراقُ اليوم في أزمةٍ عَويصَةٍ ومُزمِنةٍ، وستُعالجُها صدمةٌ قاتلةٌ ومُدمِّرةٌ، تأتي على الأخضر واليابس، وسوف لن يكونَ عراقُ الغد كعراقِ اليوم، حتمًا.
هذه هي قِراءَتي، لواقعِ الحالِ في بَلدي.. العِراق.