منذ إسقاط النظام البرلماني في العراق إبان انقلاب تموز 1958م، بعد أكثر من 35 سنة من محاولات استخدام الديمقراطية كوسيلة لتداول السلطة في مجتمعات متخلفة ومختلفة الانتماءات والأعراق والأديان والمذاهب، لا يربطها أي رابط حول مفهوم المواطنة إلا السلطة القسرية التي أوجدتها اتفاقية سايكس بيكو، منذ ذلك التاريخ تولت أنظمة أطلقت على نفسها النظام الجمهوري الاشتراكي تارة والديمقراطي تارة أخرى، ناهيك عن التسميات الثورية والقومية، وهي تعمل على إلغاء المكونات الأخرى بمختلف التوجهات والمناهج، ابتداء من سياسات التعريب والتبعيث وانتهاء بسياسة الاحتواء والإذابة التي يتم تداولها اليوم من قبل حزب ديني مذهبي يروج لنظام الأغلبية السياسية، مستخدما ذات الأدوات التي استخدمها عبد السلام عارف واحمد حسن البكر وصدام حسين وحزبيهما ( الاتحاد الاشتراكي العربي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي العراقي ) حيث سياسة ونهج الإذابة والاحتواء لكل الحركات والأحزاب والمكونات السياسية والقومية في بوتقة الحزبين.

 

     ونتذكر جميعا كيف علل حزب البعث احتواء الكورد في صفوفه على خلفية إن كل من يعيش في " الوطن العربي " ويتحدث اللغة العربية عربيا بثقافته وانتمائه، وبالتالي فهو بعثي ضمن مشروع توحيد العرب من المحيط إلى الخليج تحت رسالتهم الخالدة، وكذلك فعل عبد السلام عارف باستخدام إكسسوارات قومية ودينية لتجميل اتحاده الاشتراكي المصنوع في دهاليز المخابرات المصرية، بذات العقلية التي صنع فيها حزب البعث ومخابراته أحزاب الزينة الكوردية والشيوعية والقومية وأسس منها جبهة وطنية تردد الشعار البعثي كالصلوات الخمس لإثبات وطنيتها ومحافظتها على امتيازاتها في أحزاب كارتونية تبخرت أو تلاشت مع الأيام.

 

     واليوم وبعد أكثر من عشر سنوات من سقوط نظام البعث، وقيام ما يسمى بالنظام الديمقراطي ظلما وبهتانا، وهيمنة حزب ديني طائفي على حكم البلاد، تسبب في دمار العراق وإسقاط أكثر من ثلثه بيد عصابات إرهابية، دمرت كبريات المدن والبلدات، وهجرت الملايين من سكانها، لم يتعظ ورثة صدام حسين وحزبه " القائد " مما جرى لهم من انكسارات تاريخية وفضائح مخزية دمرت البلاد والعباد تحت يافطة ادعائهم بالأغلبية وبتمثيلهم لنبض الشعب، حيث يمارسون ذات النهج ويستخدمون ذات البيادق الكوردية أو السنية أو العلمانية أو الليبرالية من الانتهازيين والفوضويين والسراق ممن لفظتهم مكوناتهم، ويعملون على إعادة الدكتاتورية من خلال قطار الانتخابات المدعم بالفتاوى الدينية والمذهبية والعنصرية المقيتة، قطار سبق له أن حمل حزب البعث في ستينيات القرن الماضي وهوى به وبالعراق إلى حضيض التخلف والدمار.

 

     إن محاولة نوري المالكي العودة إلى كرسي الحكم ودعوة حزبه وكتلته إلى الأغلبية السياسية، وتجميلها بأحزاب الزينة كإكسسوارات لتمويه الرأي العام، كما فعل البعثيون في جبهتهم الوطنية بعد فشلهم الذريع في انجاز جبهة وطنية حقيقية لقيادة البلاد، إنما يستنسخ تلك التجربة الفاشلة التي أنتجت كل هذا الخراب الذي نشهده في العراق منذ 2003م ولحد اليوم، بل إن الاتجاه إلى تطبيق تلك الأغلبية سيعجل في تقسيم البلاد، والإبقاء على دوامة الإرهاب بمختلف التسميات ونشوء أجيال جديدة من داعش والقاعدة تكون أكثر بشاعة وقسوة مما شهدناه، وتقود البلاد إلى حرب أهلية لا يعرف مدياتها إلا الله.

 

     إن بلادا متنوعة المكونات والطوائف وبعيدة كل البعد عن أي مفهوم جامع للمواطنة، لا يمكن لها تطبيق نظام الأغلبية السياسية لأنها محكومة سلفا بهيمنة طائفة أو مكون، وحري بالطبقة السياسية البحث عن صيغة أكثر تقدما من الفيدرالية بين المكونات، بما يعزز انتمائها للكيان السياسي الاتحادي بشراكة حقيقية غير منقوصة.