انتهت الصحافة الورقية ولم يتبق منها سوى ذكريات نشتاق إليها في كل لحظة، لا انسى بائع الجرائد "جاسم" الذي كان يقف عند الإشارة الضوئية "الترفكلايت" محملاً بانواع الصحف يتنقل بسرعة بين السيارات ، مناديا بأعلى صوته:- "جرايد... جرايد... جرايد " ، مازال ذلك الصوت الذي اعتدت على سماعه كل صباح وانا في طريقي لمقر جريدتي السابقة ، يرن في اذني .
كان "جاسم" يهرول صوب كل من يناديه من نافذة سيارته "تعال ابو الجرايد" ليسلمه الصحيفة ويسترزق مما يبيع .
مازالت رائحة حبر الصحف الورقية لاتفارقني ، تلك الرائحة التي تثيرني أكثر حتى من عطور باريس الفاخرة .
كنت اقف عند ناصية الرصيف في ساحة الاندلس ، "بغداد -الرصافة" قرب مكتبة صديقي "حيدر" ، وكنت احاول البقاء اطول مدة ممكنة في ذاك المكان والذي على الرغم من بساطته أجده اجمل مكان في العالم كله ، لاقرر بعدها بفترة وجيزة المغادرة لارتباطي بالعمل في الجريدة بعدما أعطي صديقي صاحب المكتبة ثمن الجريدة التي اخترتها ، على امل العودة في صباح اليوم التالي. وخلال توقفي البسيط كنت امتع نظري بالصحف والمجلات والعناوين البارزة على صفحاتها الاولى ، وبمشاهدتي للناس الذين يمرون بالقرب مني متوجهين الى اعمالهم كالمعتاد كل صباح ، البعض منهم كان يتوجه لسيارة الاجرة "كيا نفرات" ، ًالذي كان سائقها يصيح بصوتٍ عالٍ باحثاً عن ركاب :- "يلة طالع مدينة مدينة"، وكشك آخر صغير مصنوع من معدن الألمنيوم بالقرب من المكتبة لصاحبه "جمعة الچايچي" الذي كان يتفنن في صنع الشاي المهّيل ويقدمه بقدح "الاستكانة" لزبائنه مع كلمات بغدادية طيبة "تفضل عيوني" ، وعلى بعد خطوات من مكتبة "حيدر" كان هنالك مطعم صغير للأكلات السريعة كتب على زجاج باب دخوله أسماء الاكلات التي كانت تقدم للزبائن "كص ، فلافل ، مخلمة ، عروگ ".. ورغم كل تلك الاجواء الصباحية المليئة بالحركة والحيوية ، كان منظر الجرائد المصفوفة على طاولة مكتبة "حيدر" الممتدة الى وسط الرصيف ، يبهرني اكثر من أي شيء آخر .
لكن بعد مرور السنين ، ومع التطور التقني في العالم والذي نال العراق حصة منه ، بدأت الصحف تنقرض تدريجياً حتى أصبحت من الماضي ، لتتحول على أثرها مكتبة "حيدر" الى دكان يبيع الكيبلات والشاحنات والكڤرات الخاصة باجهزة الموبايل إلى جانب مقتنيات واحتياجات منزلية وخزعبلات الزمن الجديد .
في الحياة ثمة مفارقات لايمكن وصفها لهذا الجيل ، فهناك من لايرغب باستذكار الماضي ولا يشعر بما نشعر به من حنين ، لتفاصيل بسيطة تبقى مؤثرة لمن عاصرها . فكم اتمنى ان تعود تلك الأيام وتعود صحفنا الورقية تملأ مكاتبنا من جديد ، لكن هيهات ، انها مجرد امنية لا تتحقق مهما حاولنا ، فالموتى لايعودون للحياة مرة اخرى .