لا أزعم أن سكان بلادنا و أشقائهم جغرافياً في الشرق الأوسط ملائكة، لكنني واثق من أن بساطة غالبيتهم تجعلهم الأقرب إلى كثير من الصفات الطيبة التي تميزها النوايا الحسنة والذكاء الفطري وصفاء السريرة والذهن، ورغم ذلك لا أنفي أيضاً أن الشياطين تسكن في كثير من المفاصل والتفاصيل والزوايا المخفية لدى معظم النخب، خاصةً وأن السلطة والمال تُفجر مكامنَ غير مرئية لدى طلابهما، وهذا ما شهدناه خلال عشرات السنين من حكم الأنظمة السياسية التي تولت بلدان هذه الجهة من العالم وخاصةً أوسطها وبلادها الشامية وذي الرافدين.
وقبل الخوض في سباق الملائكة والشياطين على كراسي السلطة في بلداننا وفي الشرق عموماً والأوسط منه خصوصاً، دعونا نتطرق إلى العقائد التي توجه الجالسين أو القافزين إلى تلك الكراسي التي غدت واحدة من أخطر مفاتيح كوارث الشرق، والعقائد هنا لا تعني الدينية حصرياً وإن كانت جزءًا منها، فهي تشمل كل شيء يؤمن به الإنسان ويحيله إلى برنامج إيديولوجي يعمل على التميز في تطبيقه، ومنه بالتأكيد العقيدة الدينية والسياسية والقومية، ومن الضروري جداً أن نتعرف جغرافياً على ينابيع تلك العقائد، فهي الأخرى ذات تأثير بالغ على تطبيقاتها وتفسيرات نظرياتها، والبيئة هنا تتحكم بشكل كبير في نوعية السلوك، وهي بالتالي ترسم خريطة الانتماء لتلك البقعة الجغرافية أو المكانية، وما بين البداوة والمدنية مساحات واسعة امتلأت بصراعات من كل الأنماط بما فيها التي أنتجت بحور من الدماء، حتى استطاعت البشرية تجاوز تلك المرحلة للوصول إلى أشكال جديدة من السلوك والعقائد، المرتبطة بجغرافية المكان والبيئة وتأثيراتها على أنماط السلوك وتطبيقات العقائد، والبداوة ليست تلك القيم التي يتداولها البعض عن الكرم والشجاعة، بل هي ذلك السلوك البدائي الذي يؤشر مرحلة متخلفة من حياة البشر في تقسيمات حقب التطور الإنساني من البداوة إلى المدنية المعاصرة، مروراً ببقية المراحل التي مرت بها البشرية حتى وصلت إلى ما هو عليه الآن من حضارة وقيم خلاقة، رغم إصرار البعض على التقهقر دوما إلى الوراء ببقايا تلك الثقافات الآيلة للسقوط والاندثار.
وليس ببعيد عنا في تاريخنا المعاصر ما يُظهر بقايا تلك الأفكار وأنماط السلوك البدائي وممارساته، على خلفية بدوية بدائية مشبعة بهمجية لا مثيل لها حتى في مراحل البدائية الأولى وبداوتها، وهذه الأنماط من السلوكيات ليست لها هوية قومية أو دينية معينة، بل تعكس الجوانب المظلمة في معظم المجتمعات، فقد رأيناها في رواندا وصراعاتها القبلية البربرية التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، وقبلها في المانيا ومحرقة اليهود، وأدركنا مذابح الخمير الحمر في كمبوديا ومثلها في لبنان وفلسطين وفي أنفال وكيمياويات الموت بكوردستان والمقابر الجماعية في جنوب العراق ووسطه، وقبل ذلك في أوروبا وحروبها الداخلية أو العالمية، وما حصل للهنود الحمر في أمريكا وفي كثير من بلدان العالم المتمدن الآن، إنها حقاً حقبة سوداء في تاريخ البشرية، والأكثر منها سواداً وكارثيةً هو استنساخها دينياً أو مذهبياً أو قومياً، كما فعلت منظمة داعش التي جمعت ولملمت في هياكلها كل العنصريين القوميين والمتطرفين الدينيين والمذهبيين، بل وحتى المناطقيين بخلفيات تتحكم فيها الكراهية والحقد الأعمى لكل من يخالفها الرأي.
ونظرة فاحصة لبيئات انتماء عناصرها يؤكد انتشارها في المجتمعات القبلية والأمية الأبجدية والحضارية وفي مناطق الفقر المدقع مادياً وثقافياً وتربوياً، حيث يتم استغلال كل هذه المواصفات من قبل مجاميع فاشية، يعاني أغلب عناصرها من اشكاليات سيكولوجية وفكرية، أقرب ما تكون إلى السادية والسايكوباث، كما ظهر في عمليات التقتيل الذي تتفنن تلك العناصر بتنفيذها ذبحاً أو خنقاً أو حرقاً أو إغراقاً، بل إنها حتى في هذه الطرق تنحو إلى تفاصيل مقززة في القتل كما في عمليات الذبح بسكاكين مثلومة لمضاعفة آلام الضحايا والتمتع بصيحاتهم وآهاتهم، وكذا الحال في عمليات الشوي بالنار حتى الموت، أو الإغراق التدريجي للضحايا، أو تقطيع الأوصال حتى الموت.
هذا النمط من السلوك المتوحش لم يلد ليلة أمس، بل هو تراكم هائل لسلوكيات وأفكار وعقائد أنتجته صحراء الفكر وحضارة الغزو والقتل والسبي والاغتصاب، وإباحة الآخر المختلف تحت أي مسمى كان، سواء ديني أو عرقي أو فكري أو سياسي، وإن كان قد استبدل عناوينه ومسمياته لكنه ما يزال يحمل تلك العقيدة البدوية البدائية التي يترجم تفاصيلها بهمجية أدركنا سلوكياتها في حلبجة والأنفال وبعد ذلك في نسختها المعدلة في سوريا وما حصل ويحصل في عفرين وقبلها في سبايكر وسنجار وسهل نينوى، ناهيك عن كارثة لم تظهر تفاصيلها بعد لعشرات الآلاف من المغيبين السنة بتهمة التعامل مع داعش!
إن الكثير من حاكمي هذه البلدان في العراق وسوريا ومعظم بلدان الشرق كانوا أقرب الى الملائكة في سلوكهم قبل أن يتسنموا مقاليد الحكم، لكنهم تحولوا إلى شياطين وطغاة حينما جلسوا على كرسي السلطة!؟