بعد أن نشرت قصيدة ((والله ما طلعت شمس ولا غربت)) للحلاج، وصلتني رسائل على الخاص من بعض الأحبة، بين عاتب ومستغرب، وبين من يسأل عن رأيي في الحلاج ومذهبه وفلسفته. والحقيقة أن هذا الموضوع جدلي، وإيفاءه حقة من الحديث بحاجة الى وقت طويل ودراسة موسعة، ولكن؛ باختصار وتبسيط أقول:
الحسين بن منصور الحلاج (244 ــ 309 هج) فيلسوف وصوفي وشاعر، عاش في العصر العباسي، وهو من القائلين بفلسفة الحلول ووحدة الوجود، أي حلول الله في جسد مخلوق، وأن الخالق والمخلوقات (الوجود) حالة واحدة وحقيقة واحدة، وقد اتهم بالزندقة والكفر، وقتلته السلطة بناء على فتوى مشايخها، وتم تقطيع أوصاله وحرقه، ولم يتراجع عن رأيه. ولعله أحد أكثر الشخصيات الجدلية في التاريخ الإسلامي؛ فأغلب رموز الصوفية يعتقدون بإيمان الحلاج وقدسيته، ويصفونه بالولي والعارف الإلهي والعالم الرباني وصاحب الكرامات، بينما يرى الفقهاء وعلماء الكلام بأنه أكفر الكافرين، ويصفونه بالزندقة والخرق والشعوذة. ويعد الحلاج مدرسة ومرجعية في العرفان والتصوف لكثير ممن جاء بعده، كمحيي الدين بن عربي وعبد القادر الكيلاني وشمس تبريزي وجلال الدين الرومي، وصولاً الى رموز الصوفية والعرفان الحاليين، برغم التعديلات التي أدخلها هؤلاء على منهجه وفلسفته، وهم غالباً من المذاهب السنية، ولكن هناك من الشيعة أيضاً من يعده عارفاً بالله وليس كافراً، وأنه شهيد الحب.
والحقيقة أن الجدل وتراكم آراء علماء المسلمين لايتمحوران حول شخصية الحلاج وحسب، بل حول نظرياته وأفكاره، وتحديداً الحلول ووحدة الوجود، ولو كان الحلاج مجرد شخص مشعوذ وأخرق، ولم يتحول الى مدرسة ومنهج، لانتهى أمره واختفى الجدل حوله، حاله حال كثير من الشخصيات التاريخية.
ولعلماء الشيعة رأي دقيق وتخصصي في هذا اللون الخاص من العرفان والتصوف، فهم يفرقون بين منهجين لوحدة الوجود، وبناء على هذا التفريق؛ يتم تحديد الرأي من الحلاج:
المنهج الأول في وحدة الوجود، يذهب الى حلول الله في مخلوقاته، واتحاد الخالق بالمخلوق، وانهما حقيقة واحدة، أي أن الله وكل مخلوقاته وحدة واحدة لاتنفصل في الروح والنفس والمادة، وأن كل موجود هو عين ذات الله. وهذا الرأي هو كفر وزندقة بإجماع علماء المسلمين.
المنهج الثاني في وحدة الوجود، يرى أن الوجود واحد، لكن حقائق الموجودات والواجد مختلفة، ويرفض الحلول ويقول بالتجلي والتعشق، ويرفض الوحدة الكاملة للوجود والموجود أو الخلق والخالق، ويفرق بين حقيقتهما، أي أنهما ليسا حقيقة واحدة، فالله هو الحق فقط، وباقي المخلوقات حقائق نسبية، ويُعتقد أن محيي الدين بن عربي هو مؤسس هذا المنهج. وقد فكك العرفاء الشيعة القائلين بوحدة الوجود هذه المعادلة، وذهبوا الى القول بأن المخلوق ليس عين وجود الله وحقيقته وذاته، بل هو تجل للخالق، وأن الوحدة بين الحقيقتين تعني تعشق المخلوق بالخالق وذوبانه فيه.
تجدر الإشارة الى أن تداول نظرية الحلول ووحدة الوجود، لاتقتصر على المسلمين، بل أن لها حضور سابق عميق في الديانات الهندوسية واليهودية والمسيحية وفي الفلسفات اليونانية والرومانية والصينية واليابانية. ولعل أهم مثال على ذلك؛ وحدة الله وعيسى المسيح في الديانة المسيحية، كما كما لها حضور في عصر الإمام علي، حين ابتلي بمن غالوا به وقالوا بأنه الله المتجسد بإنسان، وقد لعنهم الإمام وأمر بقتلهم.
وبناء عليه؛ فإن من يفسر فلسفة الحلاج على أنها تدخل في إطار المنهج الأول، فهو يقول بكفر الحلاج، أما من يرى أن الحلاج لايقول بوحدة الوجود الكاملة، بل بانفصال حقيقتيهما، وبأنه ذوبان المخلوق بالخالق، فهو لايرى كفر الحلاج. ولكن حتى من لايرى كفر الحلاج، فإنه يذهب الى أنه ضال ومنحرف، لأنه يبالغ أو يراوغ في طريقته، فضلاً عن انحرافاته السلوكية ومزاعمه المتناقضة، ومنها زعمه نيابة الإمام المهدي.
وأعتقد أن الرجوع لأهل الإختصاص من الفقهاء وعلماء الكلام والفلاسفة المسلمين، هو الموقف الأصح الذي ينبغي أن يتخذه أمثالنا من غير المتخصصين. وقد ذكرنا بأن المتخصصين يذهبون الى أن القول بالحلول وبوحدة الوجود الكاملة، بمعنى أن الموجودات هي عين ذات الله؛ هو كفر وزندقة، وليس عرفاناً ولا تصوفاً ولا حباَ ولاعشقاَ. أما وحدة الوجود وفق المنهج الثاني، أي وحدة التجلي، والذوبان في الله (المحو في الله) والاتصال به ( الوصال)، من خلال العبادة والصلاة والأذكار والدعاء والمناجاة والكشف والتفكير والتأمل والزهد والتقوى، كما هي مدرسة الملا صدرا والشيخ الفيض الكاشاني والشيخ الملكي التبريزي والسيد علي القاضي والسيد جمال الدين الكلبايكاني والسيد محمد حسين الطباطبائي والإمام الخميني والشيخ بهجت؛ فهي مثال العرفان الإلهي، وهو العرفان الشرعي العملي، الذي يستند الى معرفة الله، ويعتبر الشريعة هو السير والسلوك نحو الحقيقة واليقين، وبأن العرفان واليقين والحقيقة لاتنفصل عن الشريعة، وأن من ترك الشريعة وأحكامها، بذريعة اليقين والسلوك والعرفان، فقد ضل، وهو ما يظهر بجلاء من سيرة هذه الشخصيات وسلوكها العملي.
ولكي نكون منصفين، وبصرف النظر عن مذهب الحلاج وسلوكه ومقولاته الأخرى؛ أرى أن قصيدة ((والله ما طلعت شمس))، والتي يخاطب فيها الشاعر الله (تعالى)، هي دليلُ إيمانٍ بالله المنفصل عن مخلوقاته، وفيها يذوب المخلوق في الخالق ويرجو لقاءه، أي أنهما اثنان وليس واحداً. وبالتالي؛ فإن ما في القصيدة ليس ضلالاً، بل أعلى مراتب الحب، وإن كان لدى الحلاج مقولات وأشعار أخرى تدل على ضلاله عن عقيدة التوحيد. ولا أنكر أني أتذوق كثيراً الشعر العرفاني والصوفي الذي يندرج تحت عنوان الحب الإلهي، وخاصة الملحَّن منه. وقد سبق أن ترجمت قصيدة الإمام الخميني (( أسٓرٓني خال شفتك أيها الحبيب..)) الى العربية، فور الإعلان عنها، ونشرتها في العام 1991 في مجلة التوحيد التي كنت أترأس تحريرها، وقد أثارت حينها ضجة كبيرة في الأوساط العربية، بالنظر للمعاني والمفردات العرفانية غير المألوفة التي تستبطنها، كما دفعت القصيدة مشايخ الوهابية وعموم السلفيين الى تكفير الإمام الخميني مرة أخرى، برغم الشروحات ـــ التي نُشرت تباعاَ ـــ لمفرداتها.