لست في وارد الدفاع عن الحزب الديمقراطي الكوردستاني، ولكن المزايدات السياسية التي أصبحت كالماء والهواء لدى مشعلي الأزمات والمعتاشين على الفتن والمهاترات وهجماتهم الغادرة ومحاولاتهم المستمرة لسحب المواطنين نحو التوترات الجانبية، وإستمرار عيش بعضهم في بيئة الوهن الفكري وحمل أثقال أحلامهم الكبيرة وأوهامهم الكثيرة وإصرارهم على التزمت والتآمر والانقلاب حتى لو تطلب ذلك التحالف مع الشيطان، تقتضي توضيح بعض الأمور وإلقاء الضوء على خلفيات الأوضاع الراهنة، وبدايات الأزمة التي أدت الى تعطيل برلمان كوردستان.
هذه الأزمة نتجت بعد 18/5/2015، أي بعد أن اجتمعت الأحزاب والقوى السياسية الكوردستانية مع الرئيس مسعود بارزاني لبحث نتائج زيارته الدبلوماسية المثمرة التي قام بها، والوفد المرافق له، الى الولايات المتحدة وهنغاريا والتشيك، وعودته وهو يحمل تطمينات سياسية تختلف عن كل المراحل السابقة خصوصاً فيما يتعلق بدعم الكورد في الحرب ضد الإرهاب وحق تقرير المصير للشعب الكوردستاني.
تلك التطمينات المهمة، عطلت التفكير عند المعارضين المزمنين لفعاليات وسياسات الرئيس بارزاني الناجحة، وأصبحت بمثابة بداية لصراع جديد مشوش ومتداخل، وتخبطات حزبية ومناوشات إعلامية لا تنفع ولا تغير، وإنطلقت العجالة البرلمانية المتلهفة لتمرير التوتر والمجاهرة ببيع العواطف القومية وتثوير الروح الفوضوية وسلب التوازن العقلي دون التفكير في النتائج، أو في ظروف الحرب ضد داعش الذي كان يستدعي التكاتف والتريث وإستحضار الحكمة وحسن النيات، والتأمل في أبعاد تأثيراتها على الاستقرار المجتمعي وعلى مناخ التوافق. فتراجعوا عن التعهدات والإتفاقات وإستغلوا الظروف ونفذوا في 23حزيران 2015 في برلمان كوردستان ما دار في أذهانهم من مشاريع لزرع الإرباك، فإفتعلوا الأزمةً.
الحزب الديمقراطي الكوردستاني، الذي يمتلك أدوات التوازن والانضباط للرد، حاول التمسك بمواقفه الثابتة المتعلقة بالحوار والتواصل والتفاهم وبعلاقاته التي تمتاز بالخصوصية والمتانة والتراكم التاريخي مع جميع المكونات والأحزاب، كما دعى المنفعلين الى ضرورة العودة الى الرشد والحوار على أساس من الرصانة والموضوعية والدقة من أجل التوصل الى حلول سياسية ودستورية تتوافق مع التطلعات والمصالح العامة وتنسجم مع الواقع ومع منظور ما يفرضه العصر، وما تفرضه الخصوصيات التاريخية والقومية والوطنية الكوردستانية.
في المقابل، زاد السياسيون والبرلمانيون المستعجلون المجادلون، من مساحة مشاكساتهم المسكونة بالحساسية، وأصبحوا نجوماً على شاشات الفضائيات، يمارسون اللاعقلانية ويوجهون نعوتهم الغليظة ومدافعهم الصوتية من أجل إستحضار التهم وإستنفار الناس ومضاعفة حيرتهم في الفضاء السياسي عبر مشاريع خاصة لافتعال الازمات، دون إلتفات الى نظافة المفردات ونقاوة الكلمات، ودون النجاح في كسب التعاطف أو حتى تجميل ما يريدون تجميله.
تلك المواقف البعيدة عن تطلعات المواطنين، حشدت المزيد من السهام لتخزينها في ترسانة البرلمان، بهدف اللجوء إليها في الوقت المناسب، وفي لحظات فرض النفس بعيدا عن مبادىء وروحية التوافق والعمل السياسي المشترك الذي تشكلت على أساسه رئاسة البرلمان ومنحت لها الثقة والسلطة، وبعد عدة إجتماعات ثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية، وفي التاسع عشر من آب 2015 حاولوا تنفيذ الصفحة الثانية من العجالة ولكنهم فشلوا.
بعدها زادت وإستعرت المزايدات والتوترات وحدة الصيحات، وأخذت أبعاداً مختلفة بحيث لم تشهد كوردستان مثيلاً لها من قبل. وفي حدود محافظتي هلبجه والسليمانية أنتشرت ظاهرة حرق مقرات الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وتعرض المنتمين والمؤيدين له للقتل والتهديد والترهيب، كما أردوا نقل تلك الفوضى، بل الأسوأ منها، الى العاصمة أربيل، عن طريق رئيس البرلمان.
تلك الرغبة المفضوحة، والأحداث المؤسفة وضعت الحزب الديمقراطي الكوردستاني وحكومة الاقليم أمام خيارين، لاثالث لهما، لإتخاذ القرار الصعب بشأنهما، وهما : إما السماح بنشر الفوضى والإرباك والإبتزاز السياسي وظاهرة حرق المقرات في أربيل، والسماح بالتعرض للقنصليات الأجنبية والشركات العاملة في العاصمة، وتعرض الأوضاع الأمنية والإقتصادية والإجتماعية والتربوية والصحية الى الخطر، والسماح بتفجير الأوضاع وحرق الأخضر واليابس.. أو تعطيل البرلمان ومنع رئيسه من دخول أربيل. وبتأن وتعقل تم دراسة ومقارنة الخسارات الكبيرة والكثيرة مع الخسارة الوحيدة، فتم اللجوء الى الخيار الأقل ضرراً وتكلفة، وهو منع رئيس البرلمان من دخول أربيل وتعطيل البرلمان بشكل مؤقت، وعند قراءة النتائج وتقييم القرار( رغم صعوبته ومرارته)، نلاحظ إنه كان صائباً، لأنه حافظ على إستقرار الأوضاع في العاصمة، وبعدها مباشرة إستقرت الأوضاع في هلبجه والسليمانية أيضاً، وعاد الهدوء اليهما.
مع ذلك يمكن إعتبار الحزب الديمقراطي الكوردستاني، هو المتضرر الوحيد والأكبر من تعطيل البرلمان، لأنه صاحب أكبر كتلة في البرلمان، والمقتنع بأنه ليس في البلاد متسعٌ للتشتت والتفرقة والمناكفات، والأحرص على الديمقراطية والقنون والمصالح العامة، ولأنه يعتبر ذاته، مع الخيرين من أبناء كوردستان، مسؤولاً عن تحقيق طموحات شعبنا المشروعة في الديمقراطية وحق تقرير المصير، والمؤمن بأن المشكلة الرئيسية لا تكمن في رئاسة البرلمان بحد ذاتها، لأنها قابلة للحل في أي لحظة وفق سيناريوهات عدة. بل هو متخوف من المصائب التي تكمن في وقوف المزايدون السياسيون أمام جماعة من المرابين الإقليميين، وإصرارهم على الأخطاء وإشعال الفتن وتوتير الأجواء وتعكير العلاقات بين الفرقاء السياسيين، وعلى إطلاق التهديدات بالويل والثبور، وترهيب وتخويف المواطنين وإرعابهم، وفي مضيهم قدماً في وضع العراقيل أمام عملية الإستفتاء، وأمام التقدم في طريق الانفراج، وإعادة مياه الشراكة الوطنية بين الأحزاب إلى مجاريها الصحيحة.