لمّا يزل المفهوم الاصطلاحي للقضاء حبيس الرؤى السياسية الخارجة من رحم الوثيقة الدستورية ذات الطبيعة الثنائية السياسية والقانونية والتي لم تأت من راهن الحاضر او متبنياته الآنية او مطالب تغييرية تنشد الاصلاح ، بل هي منظومة تراكمية جاءت من حاجة المواطن الى العدالة وبالمقابل الحاجة الى ادوات ضامنة لتحقيق هذه العدالة.
فالعدالة بالنسبة للمواطن هي مساحة الانسجام بين احترام حقوق المواطن وتطبيق القواعد القانونية التي اقرها المشرع وتطبيق هذه المهمة تُوكل الى القضاء والتي تتوقف ماهيته ومفهومه على طبيعة النظام السياسي القائم وهو الامر الذي جعل الانظمة القضائية متعددة فالبعض يرى في القضاء سلطة ثالثة موازية لعمل السلطتين التشريعية والتنفيذية وهي رؤية الديمقراطيات الرأسمالية الليبرالية المأخوذة من مبدأ (مونتيسكيو(.
في حين يرى مفهوم آخر أن القضاء اداة بيد رئيس الدولة (السلطة التنفيذية) وهي رؤية ديغول للقضاء الميالة الى النزعة الثورية في رقابة المشروعية القانونية، في حين يرى المفهوم الاشتراكي للقضاء بانه مرفق عام لكنه مرفق ذو صفة خاصة، ويسير بالتوازي مع ذلك مفهوم رابع يعتمد السلوك في تحديد مفهوم القضاء ويقول (باستقلال القضاء) لكنه في الجانب التطبيقي يشكل اجهزة اخرى تمارس العمل القضائي خارج إطار النطاق القضائي، وبالمحصلة التراكمية يقترن مفهوم القضاء بالتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها الدول، فالقضاء في العراق خرج من جلباب السلطة التنفيذية بعد التغيير النيساني في عام 2003 وبموجب الامر رقم (35) في تاريخ 18 / 9 / 2003 كسلطة مستقلة تعززت استقلاليته بصدور الدستور العراقي الدائم عام 2005 والذي نص في المادة (47) على مبدأ الفصل بين السلطات واستقلاليتها بعد ان اعتبر السلطة القضائية احدى السلطات الثلاث الاتحادية.
الا انه وبالرغم من الاستقلالية في العمل والتي يمكن تلمسها بوضوح في العمل القضائي بمقابل السلطات الاخرى وبخاصة التنفيذية الا ان التشريعات المنظمة لعمل السلطة القضائية ظلت في حالة شد وجذب ضمن التنافس والصراع السياسي كما هو حال قانون المحكمة الاتحادية العليا بل ان القوانين التي صدرت لم تكن محط قبول ورضا السلطة القضائية التي اعدت مدونة للقوانين المنظمة للعمل القضائي وارسلتها للسلطة التنفيذية والتشريعية الامر الذي رأينا القوانين الصادرة كقانون هيأة الاشراف القضائي رقم 29 لسنة 2016 وقانون مجلس القضاء الاعلى رقم 45 لسنة 2017 بمواجهة النقض والذي أطاح بمواد قانونية مخالفة للدستور عند النظر في مشروعيته القانونية من قبل المحكمة الاتحادية في الوقت التي تعاني القوانين الاجرائية كقانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل وقانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل من قصور في العمل التطبيقي تم تلافي بعضه من خلال التعديلات وظل البعض الاخر علما ان التعديلات كما هو معروف تشكل ارهاقا للقوانين وبالتالي العمل القضائي.
ناهيك عن ان الوقائع والاوضاع المنتجة للقضايا المدنية والجنائية ونصوصها العقابية صارت بحاجة ماسة الى قوانين جديدة تأخذ بنظر الاعتبار تطورات المجتمع الآخذة بالاتساع والتعقيد في ظل ثورة التقنيات والمنظومات الالكترونية اضافة الى ان طبيعة العمل القضائي بحاجة الى رؤية تخصصية ترتقي بالعمل وذلك عبر وجود قاض متخصص في القضاء المدني والقضاء الجنائي او القضاء الاداري فضلا عن القضاء الدستوري وقضايا منازعات العمل وغيرها، فتوسع التشريعات وتطور الحياة خلقت الكثير من الأنظمة والتعليمات مع وجود قوانين متعددة وحاجة ضرورية لمسايرة التطور القضائي الذي يتجه نحو التخصص في جانب قضائي وتنقل القاضي بين ميادين العمل المدني والجنائي واللجان القضائية مع قضايا العمل والادارة وغيرها.
كل ذلك يخلق نوعا من الصعوبة في الالمام بكافة تلك القوانين والانظمة والتعليمات وبخاصة ان القاضي سيكون في الاغلب بمواجهة اختصاص مضى وقت طويل بعيدا عنه وغير مواكب للتطورات الخاصة به بمناسبة النزاع المعروض امامه مع الاشارة الا ان القضاء العراقي وقبل صدور الدستور الدائم لا يعرف نظام تعدد القضاء وكان القضاء موحداً ولا يوجد قضاء اداري بالمعنى المعروف في فرنسا او مصر وان وجدت اشكال لهذا القضاء على شكل مؤسسات كمجلس انضباط موظفي الدولة وغيره الا انها محدودة الصلاحيات.
اما بعد صدور الدستور واستقلال القضاء والغاء المحاكم الخاصة واللجان التنفيذية الممنوحة صلاحيات قضائية اضافة الى ظهور المحكمة الاتحادية العليا والتي تم تشكيلها بموجب الامر رقم 30 لسنة 2005 المسند على المادة (44) من قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية والتي تم اقرارها دستوريا بعد ذلك بالدستور العراقي الدائم والتي تمثل القضاء الدستوري في العراق وتضخم مؤسسات القضاء الاداري بوجود محكمة القضاء الاداري ومجلس الانضباط العام ومجلس شورى الدولة كل ذلك يقتضي وجود قضاء متخصص بنوع من انواع القضاء لان وجود التخصص والتفرغ الكلي لهذا النوع سيحقق مهنية اعلى واستقرار اكثر في العمل القضائي وبالتالي ينعكس على تحقيق العدالة الهدف المنشود والغاية المهمة وبالإمكان تحقيق ذلك من خلال تشريعات تنظيمية قضائية تعتمد رؤية جديدة تتمثل بخلق نوع من ورش العمل القضائية الصغيرة والتي تشابه جدا الاجتماعات القضائية ويتم مناقشة الموضوع وصياغته بشكل اكبر آخذين بنظر الاعتبار مقررات اجتماعات او ورش العمل القضائية وبالإمكان اعتماد ورشة قضائية موسعة بالتعاون مع الجهات القانونية الساندة للخروج بتشريعات قضائية جديدة متخصصة كما هو في مختلف العلوم الاخرى فالتخصص هو الاقرب للإبداع والمهنية من التعدد وبالتالي اعطاء فكرة اكبر للعدالة مع تحقيق ناجز وسريع لها فالعدالة في جانبها المهم هي الحقيقة وقرار الحكم هو عنوانها وصورتها الاشد وضوحاً والاكثر اتساعاً.