ليس أمام إسرائيل إلا التوغل داخل غزة والسيطرة عليها، رغم الخلافات الداخلية حول حجم وأهداف هذا التوغل.. وستسنح لروسيا والصين فرصة تحريك إيران ضد هذا التوغل.
فروسيا، ستحصل على فرصة ثمينة، يَتشتَّتُ فيها الدعم الغربي لأوكرانيا. والصين، ستستغلُّ انشغال الغرب بالحرب في غزة، لِتَنقضَّ على تايوان وتضمَّها إليها.
ويبدو لي، أن إسرائيل وأمريكا، وحلفاءهما، يخطّطون لخارطة عالمية جديدة، يتمُّ إنشاؤها بعد حرب غزة، كما صرّح بذلك كلٌّ من نتانياهو وبايدن، بل وذهب نتانياهو إلى أبعد من ذلك، حينما قال: أن نبوءة يهوا ستتحقق، في إشارة إلى تأسيس الدولة اليهودية.
ويخشى أردوغان، الذي اتّخذ موقف الوسيط بين الطرفين في بداية الأزمة، والذي رفضه نتانياهو.. يخشى من أَبعاد هذه الخارطة، التي يَعتقدُ أردوغان أنها تستهدف إنشاءَ دولة إسرائيل الكبري، من النيل إلى الفرات، وتأسيسَ كيان كردي مُستقل على التخوم الشمالية والشمالية الشرقية لهذه الدولة، مستقطعةً بذلك أراضٍ واسعةً من تركيا.
وقد شكّل إهمالُ نتانياهو لعرض الوساطة من قبل أردوغان، إشارةً واضحةً لديه إلى ما تخفيه الخارطة الجديدة، إضافة إلى معلومات استخباراتية بهذا الخصوص، مما دفع أردوغان إلى تغيير الموقف من الأزمة، واتخاذ موقف المساند لحماس، والذي أعلنه في التجمع الشعبي الواسع يوم السبت الماضي، بل وتهديده لإسرائيل، ومواجهتها عسكريا بشكل آنيٍّ ومفاجئٍ، إذا تطلب الأمر.
وفي الوقت الذي يمكن اعتبار هذا التجمع مادة انتخابية للاستهلاك المحلي، جنبا إلى جنب مع صميمية أردوغان وصدق إيمانه وقناعته بالقضية الفلسطينية بلا شك، إلا أنه يُعتبَرُ أداة فعّالة لتحشيد التيار القومي التركي خلف الحكومة، لمنع أية محاولة للمساس بالخارطة السياسية لتركيا الحالية، وهو ما دأب أردوغان على فعله بعد تعرضه للانقلاب العسكري عام 2016م.
دخول تركيا كطرف مساند لحماس في الصراع الدائر في غزة، يعني تصنيفها، غربيا، بالمتموضع في الجبهة الشرقية، جبهة روسيا والصين وإيران، وهذا يعني سقوطها في دوامة الازدواجية العويصة في العلاقات العسكرية مع الناتو، والعلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع الاتحاد الأوروبي، وسيتعين عليها أن تتخذ الموقف النهائي عند توسّع نطاق الازمة.. خاصة، وأنها في حاجة ماسة إلى بقائها في محور الناتو، لأن تسليحها وتدريبها وتجهيزها يعتمد أساسًا على الغرب، وعلى أمريكا بالذات، وأنها في حاجة ماسة، كذلك، إلى الدعم المالي، والسيولة النقدية الغربية، في ظلّ اقتصادٍ هشٍّ، يعاني من خلل هيكلي.
والموقف الإيراني سوف لن يكون أقل عنفا من الموقف التركي حيال هذه الخارطة المزمع رسمها، فهي ستمسّ الأمن القومي الإيراني كذلك، وهو ما سيدفع النظام الإيراني إلى تحريك أدواته الخارجية كافة، للتصدي لنوايا نتانياهو ومخططاته، وإن تطلّب ذلك تدخّله المباشر، على الرغم من تعهده بالابتعاد عن فتيل الأزمة، وآثار شرارته التي ستضره كثيرا، ولو أضفنا إلى كل ذلك، رغبة الصين وروسيا في دفع إيران وأدواتها إلى عمق هذه الأزمة، فإننا سنلاحظ، وبوضوح، صعوبة الموقف الإيراني، في ظلّ واقع اقتصادي وسياسي وعسكري غير مُؤهَّل لحمل أعباء حرب طويلة، مع قوى أَلِفَتِ الحروبَ، واقتاتْ عليها.
هذه الأزمة، ستغيّر خارطةَ الطاقة في المنطقة، فقد أوقفت تركيا اتفاقاتها مع إسرائيل بخصوص التنقيب في البحر الأبيض المتوسط، ونقل الغاز المُجمَّع في إسرائيل إلى أوروبا، كما أن الغاز المستكشف في السواحل قبالة غزة سينتقل من الحيازة الفلسطينية، إلى الحيازة الإسرائيلية، ولو أضفنا إلى ذلك، الاتفاقات المبرمة بين إسرائيل وقبرص واليونان ومصر، والاتفاقات الناجمة عن التطبيع العربي بخصوص الطاقة، فإننا سنكون أمام مشهد جديد في مجال الطاقة، تستحوذ فيه إسرائيل على خطوط النقل وتوفير الطاقة لأوروبا، بدل تركيا.
وستترتب آثار اقتصادية عالمية على وطأة أزمة غزة، ووتيرة تطورها، فقد عبرَ الذهبُ حاجز 2000 دولار للأونصة، وسيقترب سعر النفط من حاجز 100 دولار، وهو ما سيضغط على معدلات التضخم في العالم، وستهبط مؤشرات الأسواق والبورصات العالمية، إن لم تتعرض للانهيارات، وسترتفع أسعار الفوائد في كافة أنحاء العالم، وستقل الكتلة النقدية في الأسواق، التي ستعاني بدورها من الركود، فترتفع معدلات البطالة، ويقل نمو الناتج الإجمالي العالمي، وسيدخل الاقتصاد العالمي في ركود تضخمي غير مسبوق، وكل ذلك سيحدث، وسيتطور، مع وقع توسّع الأزمة في غزة، وتحوّلها إلى حرب إقليمية، أو عالمية.
ومن الآثار الاجتماعية المترتبة على هذه الأزمة، نشوء جيل إسلامي عربي سني، تتأصل فيه روح اللاسامية، والعداء لليهود وغطائه الصهيوني، وسيكون هذا الجيل الكابوس الذي يُؤَرِّقُ منام وأحلام اليهود حتى يحين ساعة المنازلة الكبرى.
كل ذلك، سيحصل أو قد لا يحصل، سواء قاومت حماس وشعب فلسطين ببسالة، أو لم تتمكن من المقاومة، فهناك من يخطّط في الأرض، وهناك من بيده الأمر كله، من قبل ومن بعد، في السماء.