الأسباب عديدة، والعوامل متنوعة، والنتيجة واحدة، نحن في أوهن حالة، وعلينا أن نستيقظ من الغيبوبة شبه الأبدية، والمدامة عقوداً إن لم تكن قرونناً، فبعد أن كنا نسود كإمبراطورية، أصبحنا أمة بلا تاريخ، وشعب بلا وطن، وديمغرافية بلا جغرافية، سرقت منا روحانيتنا، ونهبت ممتلكاتنا، وهمشت لغتنا، وأصبحنا بلا ماض، وفتاته الباقي فبرك وشوه وحرف أو سرقه الأخرون، وتحولنا إلى أمة متناحرة فيما بينها، وهذا يجرف حراكها إلى المتاهات، ومن ضمنها الإذعان للإملاءات، فيجبر على اعتبار التبعية دبلوماسية مناسبة، وفي هذا الوضع يفقد بوصلته لبلوغ الغاية، وأية غاية؟ تلك التي لا تزال متمرغة ضمن جدالات عقيمة، لم يتفق عليها حتى اللحظة طرفان كردستانيان، ويتأذى منها الشارع الكردي أكثر من حراكه، ومثله الشريحة الواعية المنفية من الساحة.

 وهذا يؤدي إلى التقاتل فيما بيننا، فينسينا الإعداء، ويطيب لنا خدمة الأخرين، ونعمل من أجل قضيتنا بخجل وتنتابنا الحيرة والتردد، تتقدمنا الأخطاء، ليصيدها الأعداء، ويغيّب عنا ما تكيده لنا المتربصون، وهذا ما يزيد من لوم بعضنا البعض. ناهيكم عن تقزيم أحدنا للأخر، وما يزيد الطين بلة أن معظم ما نقوم به تنتهي بلا نتيجة، إن لم تكن بكارثة.

 ليس شماتة بحراكنا، فهي مسلوبة الإرادة، ولا إضعافاً لمعنوياتنا، ولا تصغيراً لقادة ضحوا، لكننا في سبات، فنحن أمة جديرة بنيل حريتنا، يدرك المقتسمون هذه الجدلية، لذا يحدون من مجموعات حراكنا الكردي المكافح من أجل إشاعة الديمقراطية، متجنبين، بقدر الإمكان، الاقتراب من ديمقرطة المنطقة، لأنها ستزيد من فرص استقلال كردستان.

 لا تخفي القوى الإقليمية غاية تحالفاتها السياسية، المرتبطة بظهور كردستان أو عدمه، فيقفون وبشكل واضح وتحت حجج متنوعة في وجه صعودنا، يدركون أن الأمة التي حافظت على ذاتها ولغتها وخصوصياتها رغم كل ما جرى في القرون الماضية، جديرة بكردستانها، وإمكانياتها كافية لتحقيق هذا الهدف في الأجواء الديمقراطية، لكن هذه الجدلية بدون تكامل العامل الذاتي ستنجرف لصالح الأعداء،  لذا يعملون المستحيل للنخر في حراكنا السياسي، فيتطلب منه (الحراك) إعادة النظر في نهجه المتبع لحل هذه المعضلة، على الأقل التفاهم والاتفاق على نقاط التقاطع، وهذا بحد ذاته الحد الأدنى، فبدونها إمكانياتنا كأمة ستظل مشتتة، وستظل أحزابنا تحت أجندات القوى الإقليمية، ولن نبلغ غايتنا مهما كانت الأجواء ديمقراطية، بل في حضورها ومع تشتتنا نعطي الأعداء كل المبررات لديمومة استعمارها، وواقعنا الذاتي الجاري تفضح الحقيقة المرة، وهي إننا أمة إما دون سوية كردستان أو في غيبوبة.

معظم الحركات السياسية والثقافية في الشعوب الحية عند السقوط تبحث عن وحدة أمتها، وترفع من معنوياتها، وأخر ما تفكر به هي الشماتة بالمخالف له من إبناء جنسه أمام الأعداء، ولا تتهاون معهم (الأعداء) مهما قدموا من المسوغات، عند تبييض بشائعهم، أو التغطية على جرائمهم، إلا نحن الكرد، ورغم أنهم يدركون أن الجاري بينهم، هي نتيجة ترسبات إملاءات المربعات الأمنية الماضية، ومن الجدير بهم التخلص من النهج المتبع، إلا أنهم لا يزالون مستمرين على الدروب ذاتها بشكل أو أخر، تبررها بعض الأطراف بأبجدية الحوارات السياسية مع القوى الإقليمية.

  حراكنا يحتاج إلى تنقية الذات من الماضي السياسي المشؤوم، المبني على جدلية التعامل بين الضعيف والقوي، وتبعيتهم للأنظمة الشمولية المستعمرة لكردستان، علاقة السيد والموالي، فالحراك الكردي في النهاية غايتها التحرر، وسوف لن ترقى إلى سوية حوارات مع وزارت أو مؤسسات سياسية دولية، إلا إذا ارتقينا بتعاملنا بين بعضنا إلى أبعاد حضارية وديمقراطية، وخلقنا معاً قوة مشتركة تعكس قدرات شعبنا الكردي.

خدمنا ونخدم الآخرين بتفاني، ونجد لها مبررات. 
أليس غريبا، لا الشيوعيون الكرد كانوا كشيوعي العالم، ولا أئمتنا المسلمون كأئمة العالم، ولا أمميونا كأممي العالم، ولا وطنيونا كوطنيي الأخرين، ولا طوباويونا كطوباويي الناس، ولا حتى انتهازيونا كأنتهازيي البشر الآخرين. استفاد الإعداء من جل خدماتهم الوطنية، لأخطاء ساروا عليها، فانتشت قدر شعبهم الكردي الضائع، فهل حراكنا في ضياع، أم أمتنا في غيبوبة؟! فمتى سنستيقظ؟

  موسى عندما كلمه الله تباهى ورفع من مقام الأمة اليهودية إلى مصاف أمم العالم، ووصفهم وعلى لسان ربه بالشعب الله المختار، ومحمد أفاد العرب تحت عباءة الإسلام وبرسالة من الله، خير أمة أخرجت للناس، وعظم من مقام اللغة العربية لتصبح لغة أهل الجنة، أما نحن الكرد، أرتقت قليلا بعض حركاتنا السياسية، فبدل أن ترفع من معنويات أمتها وذلك بحثها للتخلص من الاحتلال، فمن أولويات ذلك العمل على التقارب بين أطرافها المتناثرة، عادت بالقهقري في مطالبها إلى درجة التسول، فارتفع مقام الأخرين على حساب تراجعنا، وهذا صدى سذاجتنا وبساطة تفكيرنا. ورب الحقيقة هو الانتصار الأهم لأعدائنا.

 وما حدث لنا في الشهور الأخيرة خير مثال، بعد أن كنا على كل لسان، وكان العالم يهتم بنا، خسرنا المكتسبات، وحل بنا الكوارث، ضاعت كركوك والمناطق المتنازعة عليها، ومنطقة عفرين، بل غربي الفرات، وقطع علينا الطريق إلى البحر، المتنفس الوحيد المأمول الخروج منه إلى العالم الخارجي دون المرور من تحت خيم الأعداء. تاريخنا مليء بالنكسات والخسائر، أو بالأحرى لم ننتصر حتى اليوم، ولهذا ليس لنا وطن، وإن كان هناك شيء من هذا القبيل، فقد جنى ويجني ثمارها غيرنا، وهي التي أعطتهم القوة اليوم والبارحة، وقد يكون غدا، ليسودوا علينا، وينهبوننا، ليس فقط مادة بل عزة وثقة بالذات، رغم أن الثقة بدون معرفة جهالة، مثلما المعرفة بدون الثقة جبن، يخلق التردد، وهذا بدوره يؤدي إلى القرارات الخاطئة، بل وتؤدي إلى نتائج كارثية أحياناً، كالمذكور سابقاً.

   فعلينا أن نعي أن نجاح الإعداء لا ينحصر في قدراتهم على تسخيرنا لأجنداته، بل في توسيع شرخ الصراع بيننا ودفعنا لاتهام البعض بالخيانة، وفي إسقاط بعض الأطراف من الحراك الكردستاني في مستنقع التبعية، وبدل أن نتحاور ضمن مؤتمرات على ما أصابنا، نلهي الشعب بصراعاتنا، ونبعدهم عن معرفة القوى التي تمكنت من تقزيمنا واستخدامنا كأدوات، والغريب أن الشرائح العاملة على تصحيح هذا النهج الخاطئ، أو مساعدة الشعب لإيقاظه من سباته، يلغى من الجغرافية الوطنية، فلا مكان لمن لا يزيد من دوامة التهم والتهجم على البعض، وهذا هو الأكسير الذي يموله لنا العدو بشكل دائم وبدون مقابل.

 لا شك الأخطاء سادت على مخططات كل من حاول تقديم خدمة للوطن، وفي جميع مراحل التاريخ، هذه هي طبيعة الإنسان، فليست هنا تكمن الطامة، بل في عدم استيعابنا لتجارب ماضينا، وعدم تعلمنا من خساراتنا. فمن سيوقظ هذه الأمة، ما دامنا كحراك مستمرين في متاهاتنا؟